«إيلاف» من الرباط: أرجعت نسبة عالية من قراء " إيلاف المغرب" إلى المجتمع المدني والهيئات النقابية وكذا الاحزاب السياسية المغربية، مسؤولية الاهمال الذي تعاني من تبعاته عدد من المؤسسات التعليمية في أنحاء متفرقة من البلاد لدرجة انها اصبحت مضرب الأمثال في الفوضى وسوء التدبير.

واستنفرت تلك الوضعية المتجلية في عدة مظاهر من قبيل عدم كفاية الحجرات لأعداد التلاميذ، ما أدى الى اكتظاظ غير مسبوق في كثير من المدارس، اعتادت الصحف والمنابر الإعلامية التندر به وتشبيه الإقسام بعلب السردين؛ هذا اضافة الى نقص في الوسائل والشروط الميسرة للعملية التعليمية الضامنة للمساواة بين المتعلمين المغاربة.

الوضعية استنفرت إذن، الوزير الجديد للتربية والتعليم الذي شغل منصب وزير الداخلية في الحكومة السابقة، فقام بزيارات تفقدية لعدد من المؤسسات التعليمية في المدن والبوادي مركزًا على النقط السوداء التي طالما أشارت اليها تقارير وتحقيقات وسائل الإعلام بأصبع الاتهام، بما فيها قنوات التلفزيون الحكومي التي تجرأت بدورها على تعرية واقع لم يعد التستر عليه ممكناً.

وكما ورد في صيغة سؤال الاستطلاع، فإن الوزير محمد حصاد، صدم بما شاهده واطلع عليه من وضعيات مزرية لا تتناسب وحجم ما ينفقه المغرب من موارده المحدودة على قطاع ينتج في أحسن الأحوال أعداداً من العاطلين، بينما النقص ملموس في المرافق الخدمية الاخرى؟

 السؤال المتكرر على الألسنة: لماذا وصلت الحالة الى ما صارت عليه؟ وكيف غابت عن المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم العاملون، في الإدارة الترابية التي كان يشرف عليها الوزير حصاد، تلك الوضعية؟

الجواب واضح عند العينة التي شاركت في استطلاع "إيلاف المغرب " إذ تتحملها، بنسبة عالية، بلغت التسعين في المائة، الادارة الحكومية، مشركة في ذات المسؤولية الهيئات الوسيطة أي الاحزاب والنقابات والهيئات التمثيلية، دعك من المجتمع المدني وحتى جمعيات الآباء والأمهات. سكتوا كلهم دون تحريك ساكن، بتنبيه المسؤولين او دعوة السكان في المناطق المتضررة الى حالة تعبئة بل انتفاضة على الوضع التربوي والدعوة بصوت مرتفع، لتلافي ما يمكن تلافيه.

في هذا السياق، يرى مهتمون تربويون، أن التساهل مع اوضاع تربوية غير طبيعية، ساهم بشكل كبير في تضخم المشاكل وتراكمها، بدل مواجهتها في حينها بالوسائل والامكانيات المتاحة وبالإجراءات الزجرية إذا لم يتم الامتثال للقانون.

وهذا ما حمل ملك المغرب في خطاب ذكرى عيد الجلوس الأخير إلى دق ناقوس الخطر، فوجه انتقاداً شاملاً وشديدًا للإدارة المغربية وضمنها الادارة التربوية التي لا تقل خطورتها عن المرافق الحكومية الاخرى إن لم تكن أعقد؛ على اعتبار ان التعليم قطاع لا يستحمل التراخي والاهمال من الإداريين والمدرسين والمتعلمين، وكذلك الأسر. كلهم معنيون بتحقيق أفضل النتائج وضمان جودة التعليم ووقف هدر المال العام.

ومن المؤكد ان العاهل المغربي اطلع على تقارير سرية تضمنت إشارات تحذيرية، فبات مقتنعًا في خاتمة التفكير بأن السكوت حرام على الوضعية المتفشية في عدد من المؤسسات التعليمية، كون ذلك الخلل يهدد المنظومة التربوية في مجملها، وبالتالي، تصبح المدرسة العمومية وسيلة لإفساد الأجيال بدل تكوينهم التكوين الأمثل، ليندمجوا لاحقاً في المجتمع ويصيروا فاعلين فيه، وقد لقنتهم المدرسة القيم الإيجابية وتشبعوا بها باعتبارها أساس تقدم الأمم ونهضتها . وهذا ما يفسر أيضًا وعلى الأرجح، استعانة الملك محمد السادس، برجل سلطة حازم احتك بالواقع الميداني، للإشراف على تدبير قطاع حيوي واستراتيجي متضرر من سوء التدبير؛ ليكون بمقدور الوزير إعادة الانضباط والنظام اليه، وفرضهما على كل الأطراف المعنية بمهنة التعليم.

ومنذ ان تولى المهندس محمد حصاد، وزارة التربية في حكومة، سعد الدين العثماني، الحالية، وهو يصدر التوجيهات والمذكرات، الواحدة تلو الاخرى إلى المسؤولين الجهويين، بغاية استنهاضهم لتستعيد المدرسة العمومية سمعتها ومستواها والثقة بها لضمان تكوين مبتغى واجواء عادية للمتمدرسين يرضون عنها هم واسرهم.

الجدير بالذكر في هذا الصدد، أنه منذ زمن غير بعيد، اعتبر التعليم العمومي بالمغرب، المثال في الجودة ومتانة التكوين، مقارنة مع التعليم الخاص، قبل ان يتطور هذا الأخير نسبيًا؛ علما انه ما زال معتمداً على جهود المدرسين الرسميين، ولا سيما الذين يتولون تلقين المواد العلمية.

هذامشكل بل نزيف آخر يعاني منه التعليم، حاول الوزير السابق والذي قبله وضع حد له، فاضطرا إلى التراجع أمام ضغط المنتفعين الذين تكتلوا في جماعات متراصة لا يهمها الصالح العام. ومن المؤسف أنهم يستفيدون من تواطؤ من يفترض فيهم الدفاع عن القيم التربوية.

ويتساءل الرأي العام والأسر في المغرب إن كان الوزير الحالي قادرًا على فرض إرادة الإصلاح التي شدد عليها الملك محمد السادس، وهل يملك السلطة والوسائل المادية والمعنوية لفرض القانون لإعادة الثقة في المدرسة الوطنية؟ لن يكون الأمر سهلاً في جميع الأحوال.

والملاحظ في هذا الصدد أن الوزير حصاد اتخذ حتى الآن القرارات الضرورية التي لا تستلزم موارد مالية كبيرة، فقد أعاد ممارسات تربوية قويمة إلى فضاء المدرسة؛ وإلى جانب التزامه بتخفيف الأقسام من الاكتظاظ والازدحام وتوفير مرافق النظافة واللعب؛ صرح أنه سيشن حرباً لا هوادة فيها، من اجل تطهير الساحات المدرسية من الممارسات المشينة التي اصبحت مسرحًا لها خلال السنوات الأخيرة، حيث صار الفضاء المدرسي مرتعًا وسوقًا، لانتشار المخدرات والمتاجرة بها علانية على مرأى ومسمع من السلطات.

ويندرج ضمن التدابير الإيجابية المتخذة التي قد تساعد على إنقاذ المدرسة المغربية من وضعية الأزمة؛ قرار فرض تلاوة النشيد الوطني وتحية العلم، بداية ونهاية كل اسبوع في مدارس المملكة جميعها. وهذا التقليد الذي كان متبعًا إلى زمن غير بعيد، إلى أن تم التآمر عليه بغاية تبخيس القيم الوطنية.

من ضمن الإجراءات المتخذة، مراقبة السلوك التربوي للمدرسين في الأقسام من حيث الهندام أولاً، وكيفية التعامل مع التلاميذ والتلميذات، إذ لا يخفى ان بعض المدرسين يأتون افعالاً غير مقبولة في القسم من قبيل التدخين أمام التلاميذ، كما أنهم لا يولون مظهرهم اية عناية. ويأمل الغيورون على المدرسة العودة إلى هندام موحد يفرض على التلاميذ والتلميذات.

كلها إجراءات عادية، إذا ما وقع التشدد والصرامة في تطبيقها، ستشيع في الفضاءات المدرسية، أملاً في الإنقاذ، وستصبح عادات إيجابية ستنعكس في العلاقات التربوية داخل الحجرات المدرسية وخارجها وتمتد إلى التحصيل.

إذا ما نجح الوزير حصاد في هذا الورش الإداري، فسيكون بإمكانه، أو من سيأتي بعده، التفرغ لفتح الورش الكبير أي الشروع في إصلاح جذري يطال مضمون ومحتوى المنظومة التربوية في سائر تجلياتها.

صحيح أن المغرب يتوفر على هيئة دستورية، مهمتها تقديم الاستشارة والوصفات الناجعة لصانع القرار التربوي، لكن مهام المجلس الأعلى للتربية والتعليم الحالي، هي أكبر وأصعب وأعقد من الواقع الميداني العصي، وقد تأزم على مر العقود وتوالي المشرفين عليه.

لا يوجد بديل عن قرارين حاسمين: أولهما إرادة في الإصلاح العميق وهي متوفرة عند ملك البلاد والنخب المتنورة. أما الثاني فيتمثل في تقبل الإصلاح والتعاطي مع تبعاته وكلفته المادية والمعنوية. وبالتالي لا يوجد تعارض مع ما اتخذه الوزير الحالي من تدابير، لأن النجاح فيها يسهل إعلان الجهاد التربوي الأكبر.