أمير طاهري*

ما العمل بشأن إيران؟ منذ زهاء أربعة عقود وهذا السؤال يطارد حكومات عدة في العالم. طيلة هذا الوقت، سُميت إيران "الدولة الأولى الراعية للإرهاب الدولي"، وإحدى دول "محور الشر"، و"المشاغب الأكبر"، والدولة "الهدامة".

خلال هذه العقود، كانت إيران طرفًا في أطول حرب في التاريخ منذ حرب الثلاثين عامًا في أوروبا القروسطية. وخاضت حربًا بحرية مع الولايات المتحدة، وحربين بالوكالة مع إسرائيل، وحربًا بالوكالة مع السعودية، وحربًا قمعية في سورية إلى جانب نظام الأقلية الحاكم هناك. وفي سلسلة من "العمليات الثورية" يعدها ضحاياها أعمالًا إرهابية، كانت ضالعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مقتل الآلاف من عسكريين ومدنيين في 22 بلدًا، من الأرجنتين إلى اليمن، مرورًا بنيجيريا والكويت.

خلال العقود الأربعة الماضية، خطفت الجمهورية الإسلامية واحتجزت مئات الرهائن مما يربو على 40 بلدًا، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا. في الحقيقة، لم يمر يوم منذ نوفمبر 1979 إلا وكانت الجمهورية الإسلامية تحتجز فيه رهائن أجانب في إيران نفسها، أو من طريق وكلاء في لبنان والعراق.

كما يتضح البعد الدولي "للمشكلة الإيرانية" في انخراط طهران بنشاط في حروب سورية والعراق واليمن، ناهيكم عن دعمها جماعات مسلحة مشتبكة في صراعات على السلطة في لبنان وأفغانستان وطاجكستان وباكستان والبحرين، وفي تركيا حتى عام 2013 في أقل تقدير.

كانت إيران اليوم، بوصفها الجمهورية الإسلامية، أيضًا ضمن البلدان الثلاثة الأولى في العالم من حيث عدد السجناء السياسيين وسجناء الضمير وعدد الإعدامات. في هذه اللحظة، هناك أكثر من 1500 إيراني في الزنازين محكومين بالإعدام. وشهدت إيران قطع العلاقات الدبلوماسية أو تعليقها مع اكثر من 40 بلدًا، وربما يكون هذا رقمًا قياسيًا في زمن السلم.

مشكلة إيران

أينما تنظر هناك مشكلة ايران. وهذه المشكلة لا يمكن تجاهلها ببساطة، نظرًا إلى أهمية إيران كدولة. فإضافة إلى موقعها الجيوستراتيجي، هي بين أول 20 بلدًا في العالم من حيث المساحة الإقليمية والسكان وحجم الاقتصاد. وظهور أكثر من ثمانية ملايين إيراني في شتاتٍ يغطي أكثر من 50 بلدًا يُضفي بُعدًا عالميًا على "المشكلة الإيرانية". وإذا أضفنا إلى موقع إيران أنها وريثة واحدة من أقدم الثقافات وأغناها في العالم ما زالت حاضرة خارج حدودها الحالية في فضاء حضاري يسمى العالم الناطق بالفارسية، سنقدر لماذا لا يمكن تجاهل إيران حين تشكّل مشكلة.

لكن ما هي هذه المشكلة؟

تحضر المرء طرفة منسوبة إلى اللورد بالمرسون عندما طُلب منه أن يشرح مشكلة شليزفيغ – هولشتاين، فلاحظ "أن ثلاثة أشخاص فقط كانوا يعرفون الجواب، أحدهم كان الأمير ألبرت المتوفى الآن، والآخر بروفيسور ألماني أُصيب بالجنون، والثالث أنا بكل تواضع، وقد نسيت الجواب".

من مصاعب التعامل مع المشكلة الإيرانية أن الذين واجهوها كانوا يرفضون تحديدها قبل البحث عن حل لها، أو يخفقون في تحديدها.

ينعكس الإخفاق/الرفض في الكليشهات المستهلكة التي كثيرًا ما يرددها الرؤساء الأميركيون المتعاقبون بأن "كل الخيارات مطروحة على الطاولة" لدى التعامل مع إيران.

تكمن الصعوبة الأخرى في حقيقةٍ مفادها أن التعامل مع إيران أصبح الخط الأيديولوجي الفاصل في السياسة العالمية. فمن جهة، يُنظر إلى الجمهورية الإيرانية على أنها رمز صلب لتحدي الهيمنة الاميركية، إن لم تكن الإمبريالية الأميركية فعلًا. وحتى في الولايات المتحدة، بفضل جهود الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لمغازلة الجمهورية الإسلامية واستدراجها بعيدًا عن بعض صفاتها غير المرغوبة، من بين أسباب أخرى، أصبحت إيران قضية كبيرة للديمقراطيين ومشكلة عويصة للجمهوريين. من الجهة الأخرى، ينظر البعض إلى إيران على أنها الشيطان مجسَّدًا، ويجب ألا يُقاوم فحسب، بل أن يُمحا أيضًا إذا أمكن ذلك.

حين بُذلت فيها محاولاتٌ لتطوير مقاربة برغماتية إزاء "المشكلة الإيرانية"، كانت الإجراءات التي جُربت مبتسرة، تتعامل مع قضايا محدَّدة، وحتى في هذه الحالة تتعامل معها جزئيًا فتفشل في التوصل إلى الحل المنشود. كانت هذه المحاولات بمثابة "خطط (أ)" عديدة للمهمتين داخل إيران وخارجها بإيجاد حل "للمشكلة الإيرانية"؟

خيار إسقاط النظام

في داخل إيران، أسّس العديد من خصوم الجمهورية الإسلامية "خطتهم (أ)" على مطلب واضح بإسقاط النظام الحالي. إن إستخدام مفردات مثل "فورباشي" (تفكيك) و"براندازي" (إسقاط) و"نبودي" (إبادة) لا يُخفي حقيقة أن "الخطة (أ)" لا تقوم على أي تشخيص دقيق رصين، وبالتالي تبقى ناقصة في المفهوم، ومشلولة في التنفيذ.

في داخل ايران، وهذه المرة في السياق الأوسع للمؤسسة الحاكمة الحالية، لدينا الاتجاه المسمى "إصلاح طلبان" (طالبو الإصلاح) الذي يرفض أصحابه مفهوم تغيير النظام، ويصرون على أن ما يحتاجه النظام الحالي للبقاء والعمل هو سلسلة من الإصلاحات.

لكن، على الرغم من حقيقة أن كتلة "طالبي الإصلاح" أدت دورًا قياديًا في الجمهورية الإسلامية، في خلال عقدين على الأقل من سيطرتها على أقسام كبيرة من السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإنها لم تكن قادرة أو راغبة قط في تحديد الإصلاحات التي تعتبرها ضرورية، ناهيكم عن محاولة تنفيذ أي منها.

على غرار الكتلة المنافسة لها في "معسكر إسقاط النظام"، فإن "خطتها (أ)" افتراضية أكثر منها حقيقية.

غني عن القول إن جناح المؤسسة الحاكمة الذي يسيطر على أهم رافعات السلطة يملك "خطة (أ)" خاصة به، تهدف حصرًا تقريبًا إلى البقاء من خلال الدعاية الطائفية والقمع والرشوة الاجتماعية والعنف المنهجي. وفي عهد قريب، حاول هذا الجناح توسيع قاعدته بكسب عناصر من الكتل المنافسة الشقيقة، خصوصًا من الشيوعيين والاشتراكيين السابقين، داخل المؤسسة. والحجة الرئيسية التي تُساق هي أن تغيير النظام أو حتى إجراء تغييرات في سلوك النظام يمكن أن يحوِّل إيران إلى "سورية أخرى".

قبول الوضع القائم

يجري تصوير سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي اندلعت في صيف وشتاء العام الماضي على أنها تحذير بأن إيران يمكن تسير في طريق بلدان "الربيع العربي"، الذي يمكن أن يؤدي إلى مأساة، وأن أفرادًا أشادوا بـ "قوة الشعب" و"طاقة الجماهير" من خلال الثورة ضد الشاه، يصفون الآن المسيرات والإضرابات المناهضة للنظام بأنها تهديدات وجودية للبلد ذاته. ويذهبون إلى أن تغيير النظام، المحفوف بالمخاطر، قد يسفر وقد لا يسفر عن نتائج إيجابية للبلد، وأن المقاربة الأهدأ ربما تكون هي النهج الحكيم الذين ينبغي اعتماده في الوقت الحاضر.

هكذا، تتألف "خطتهم (أ)" من قبول ضمني بالوضع القائم.

لكن، بعد أربعة عقود، لا بد من أن يكون واضحًا أن أي اصلاح ذي معنى غير ممكن من دون تغيير النظام، ولو كان مثل هذه الإصلاحات ممكنًا لما وُجدت الحاجة إلى تغيير النظام.

خارج إيران، كانت أغلبية "الخطط (أ)" التي وضعتها وجربتها قوى مختلفة ذات مصالح في إيران، حتى إذا جرصت على تقليل الضرر الذي يمكن أن تلحقه بمصالحها قدر الإمكان، تهدف إلى إحداث تغييرات جزئية في سلوك الجمهورية الإسلامية في موضوعات محدَّدة.

كانت "الخطة (أ)" التي أعدها الإتحاد الأوروبي تهدف إلى إقناع الجمهورية الإسلامية بعدم تنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا. ففي الفترة الواقعة بين عامي 1979 و1995، نفذت الجمهورية الإسلامية 42 عملية في 11 بلدًا أوروبيًا، وأوقعت عشرات الضحايا بينهم 117 منفيًا ايرانيًا اغتالتهم فرق الموت التي كانت تتألف في احيان كثيرة من لبنانيين وفلسطينيين.

على الرغم من الكثير من حالات المد والجزر في العلاقات، بما في ذلك غلق سفارات الإتحاد الأوروبي في طهران جماعيًا في مرحلة من المراحل، فإن القوى الأوروبية وخصوصًا بريطانيا وألمانيا وفرنسا، حاولت تدعيم خطة الاتحاد الاوروبي (أ) من خلال زيادة التجارة والتعاون التقني، وحتى الزيارات الدبلوماسية على أعلى المستويات. زاد عدد زيارات جاك سترو، وزير خارجة توني بلير، إلى طهران على زياراته إلى واشنطن. وفي بعض الأحيان، كان نظيره الفرنسي دومينيك دو فيلبان وزميلهما الألماني يوشكا فيشر يبدوان وكأنهما محاميان للجمهورية الإسلامية.

الجزرة.. ثم العصا

على الرغم من أن بامكان المرء أن يقول إن الخطة الأوروبية (أ) أصابت قدرًا من النجاح، فإنها لم تتعامل مع المشكلة الإيرانية ككل. يبيّن إستئناف العمليات الإرهابية المدعومة من الجمهورية الإسلامية، كما يتضح من الاعتقالات التي جرت في النمسا وبلجيكا والدانمارك، أن قادة طهران يستطيعون أن يتجاهلوا الخطة الاوروبية (أ) متى ما شاؤوا وإذا شاؤوا تجاهلها.

بقدر تعلق الأمر بالولايات المتحدة، شهدنا العديد من الخطط (أ)، انتهت كلها بالفشل. كانت خطة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر أن يحتضن الثورة الإسلامية في عام 1979، ولا نقول أن يدعمها، ومساعدة نظام الخميني الجديد على إرساء دعائمه. تسلّح كارتر بحقيقة أنه في خلال الأشهر الأخيرة من الانتفاضة الثورية ضد الشاه، أقام اتصالات مع العديد من القادة الخمينيين على أعلى مستوى، وأن مجلس الوزراء الأول الذي شكّله الخميني ضم خمسة إيرانيين يحملون الجنسية الأميركية أو البطاقة الخضراء للإقامة الدائمة في الولايات المتحدة. لكن، بعد تسعة أشهر فقط على نجاح الثورة، حكم احتلال متشددين خمينيين السفارة الاميركية في طهران بالموت على خطة كارتر عاجلًا، وعلى رئاسته آجلًا.

كان كارتر يفتقر إلى موقع يتراجع إليه، لكنه شن ما أصبح عنصرًا أساسيًا في "خطة (أ)" أخرى تتألف من مقاربة "الجزرة والعصا" إزاء "المشكلة الايرانية". كانت أربع مجموعات من العقوبات تشكل العمود الفقري للطبعة الجديدة من "الخطة (أ)" الاميركية التي، بعد تعديلات معينة تعكس الظروف القائمة والخصوصيات السياسية للإدارات المختلفة، إعتمدها من خلفوا كارتر بدرجات متفاوتة من التصميم.

في داخل مؤسسة الحكم الاميركية، روجت أقلية صغيرة لكنها متنفذة - تعرضت مرارًا للذم تحت تسمية "المحافظين الجدد" – "الخطة (أ)" الخاصة بها.

كانت تلك "الخطة (أ)" تدعو إلى إستخدام القوة بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة من الحدة، من الغزو الشامل إلى الرد بضربات متتالية على قاعدة "لنجرّعهم مرارة ما يجرّعونه للآخرين"، إلى "الضغط عن قرب" بمساعدة ودفع خصوم مسلحين للنظام بعضهم متهمون بالإرهاب، وحتى تدبير انقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها.

خطة ريغان

جرى تبرير استخدام القوة بالادعاء القائل إن الديمقراطية لا تُفرض بالقوة، لكن القوة يمكن أن تُستخدم لإزالة العقبات التي تعترض الدَمَقرطة، ومن الأمثلة على ذلك إسقاط صدام حسين في العراق.

المرة الوحيدة التي حققت فيها "الخطة (أ)" التي روجها "المحافظون الجدد" نجاحًا عابرًا كانت في أبريل 1988 خلال رئاسة رونالد ريغان، عندما خاضت البحرية الأميركية معركة استمرت 16 ساعة مع بحرية الحرس الثوري الإسلامي في الخليج الفارسي، بهدف إقناع آية الله الخميني بالتوقف عن إطلاق النار على ناقلات تبحر حاملة النفط الكويتي رافعة العلم الأميركي، وقبول قرار مجلس الأمن الدولي بإنهاء الحرب الإيرانية - العراقية.

لم يعتمد ريغان خطة المحافظين الجدد (أ) إلا بعدما فشلت محاولاته لتغيير سلوك الحكام الخمينيين في طهران، من خلال مغازلتهم بتهريب أسلحة إليهم لمحاربة جيش صدام حسين، وإرسال الهدايا إليهم.

اعتمد جميع الرؤساء الأميركيين الذين جاءوا بعد ريغان خطته (أ) بدرجات متفاوتة من التشديد على جانب "العصا" أو جانب "الجزرة" من الخطة. أضاف أوباما لمسته الشخصية بفرض أقسى العقوبات على الجمهورية الإسلامية، لكن مع التأكد من عدم تنفيذ أي منها في الواقع.

في الحقيقة، من اصل 35 جولة عقوبات فرضتها الولايات المتحدة على إيران منذ عهد كارتر، كانت 11 جولة منها خلال رئاسة أوباما.

استوحت السياسة الأميركية تجاه إيران دائمًا استراتيجية "الاحتواء" التي وضعها أول مرة جورج كينان في أواخر الأربعينيات لمواجهة الاتحاد السوفياتي. وفشلت الاستراتيجية في احتواء الاتحاد السوفياتي، ولعلها ساعدت في إطالة عمر الامبراطورية السوفياتية لكنها نالت بعض التبرير بدعوى أنها ساعدت على منع اندلاع حرب نووية. لكن في حالة إيران، لم يفعل الاحتواء الذي جرى التشديد عليه في عهد الرئيس بيل كلنتون سوى تشجيع أشد العناصر راديكالية في طهران. مع ذلك لم يكن هناك خوف من وقوع حرب نووية حقيقية أو متخيلة.

لم يكن فرض العقوبات من الناحية الفعلية أكثر من محاولة لكسب الوقت والتظاهر بأن المرء "يفعل شيئًا". لم يكن الرؤساء الأميركيون المتعاقبون، من كارتر إلى أوباما وربما حتى الرئيس الحالي دونالد ترمب، راغبين أو قادرين على أن يقرروا ما يجب أن يفعلوه بشأن "المشكلة الإيرانية". وهكذا كانوا، بفرض عقوبات توحي بعمل شيء ما، أشبه برجل لا يعرف أين يريد أن يذهب، فيركن سيارته في مكان ما ويُبقي المحرك يعمل.

حقيقة أن الرئيس ترمب أعاد لتوه فرض أقسى مما فرضه أسلافه من عقوبات على إيران تبين أن "الخطة (أ)" الأميركية لإيران لم تكن مجدية. يقول مساعدوه إنه قد يفرض عقوبات أقسى. لكن، حتى إذا فعل ذلك، من المستبعد أن تثبت "الخطة (أ)" المعدَّلة الجديدة إنها أشد فاعلية.

فشل في التشخيص

لكن، ماذا يعني المرء حين يدَّعي أن العقوبات لم تكن مجدية؟

بمعنى ما، تكون العقوبات مجدية لأنها تجعل الحياة صعبة على شعب البلد المستهدف بها. وتكون مجدية بوصفها رمزًا لعدم الرضا عن سياسات النظام وتصرفاته، إن لم نقل معاداتها. لكن، بقدر تعلق الأمر بهدفها المعلن، وهو إحداث تغييرات في السياسة و/أو سلوك نظام ما، فإن العقوبات في الغالب تكون غير مجدية. يمكن أن تؤدي العقوبات إلى نتائج غير مقصودة لكنها نادرًا ما تحقق النتائج المنشودة.

فشلت القوى الغربية ذات المصلحة في إيران في تشخيصها "المشكلة الايرانية" لسببين: الأول، أنها ركزت حصرًا على جوانب معينة من السياسة الخارحية التخريبية للجمهورية الإسلامية، وهي لا تدرك أن سياسة النظام الخارجية انعكاس بل وحتى استمرار لسياساته الداخلية، وأن النظام الذي يواجه مشكلات مع شعبه من المستبعد أن تكون لديه علاقات خارجية بلا مشكلات. والثاني والأكثر أهمية، انها أغفلت الفصام الذي أصاب إيران في ظل الجمهورية الإسلامية.

بحلول عام 1981، عندما تم الاعتراف بالقيادة الخمينية بوصفها القوة المهيمنة في السياسة الإيرانية، نشأت "إيرانان" جنبًا إلى جنب: إيران الدولة وإيران أداة الأيديولوجيا الثورية. كانت خبرة إيران في هذا الشأن فريدة. فكل البلدان التي شهدت هبات ثورية كبرى عانت من فصام مماثل بدرجات حدة متفاوتة.

الهدف الأول لكل الثورات الكبرى، في الأقل منذ الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789، هو تدمير الدولة القائمة وبناء دولة جديدة تخلفها. اتبعت الثورة الخمينية المسار نفسه، لكن بخلاف الثورات الفرنسية والروسية والصينية، إذا أردنا الاقتصار على ذكر أشهر ثلاث ثورات، فإن الثورة الخمينية واجهت مشكلتين رئيسيتين عندما شرعت في تدمير الدولة الايرانية.

المشكلة الأولى أنها كانت تفتقر إلى المرجعيات الفلسفية والأدبية والتاريخية المطلوبة لصوغ سرد بديل لا يكون من الممكن دائمًا تدمير القديم وبناء الجديد من دونه. والاستخدام المفرط، إن لم نقل المستهتر، ليافطة "الإسلامية" لم يستطع أن يخفي حقيقة أن الدولة الايرانية، كما جاءت نشأتها خلال القرون الخمسة الماضية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمعتقدات المذهب الشيعي وتقاليده وقيمه. وهكذا، فمن الناحية النظرية في الأقل، لم يكن بمقدور النظام الثوري الجديد أن يدَّعي أنه أراد أن "يعيد تشييع" ايران. وبدلًا من ذلك، تعين على النظام الجديد أن يستعير مفردات غربية مثل "الجمهورية"، ويعتمد لغة مستعارة من الماركسية - اللينينية، ولو أنها مقنَّعة بمفردات عربية، لكنها لم تستطع أن توفر بديلًا ذا صدقية عن الدولة القومية الإيرانية التي أراد تدميرها.

أسلمة الدولة القومية

على الرغم من التطهيرات التي شملت طرد ربع مليون شخص من القوات المسلحة والشرطة والخدمة المدنية والجهاز الدبلوماسي والجهاز الإداري والمؤسسات الأكاديمية والنخبة الإدارية والقطاع العام للاقتصاد، فإن الدولة القومية الإيرانية المنبوذة لم تختف. والأكثر أهمية هو أن النظام الجديد، لأسباب عدة منها ضرورة تفادي غزو عراقي في عام 1980، أُجبر ليس على وقف تفكيك الدولة القومية الإيرانية فحسب بل والاعتماد، جزئيًا في الأقل، على مواردها البشرية والمؤسسية للحيلولة دون إنهياره هو.

لم يتمكن الخميني وبطانته من تدمير الدولة الايرانية، فقرروا إقامة مؤسسات دولتية موازية لثورتهم. وبمساعدة جماعات راديكالية لبنانية وفلسطينية وأجنبية أخرى، شكلوا الحرس الثوري الإسلامي رديفًا للقوات المسلحة الوطنية. ولاحقًا، حين بدأ الحرس الثوري الإسلامي يبدو جيشًا نظاميًا، استحدثوا رديفًا جديدًا له معروف باسم "باسيج مستضعفين" (تعبئة المحرومين).

كبديل لقضاء الدولة القومية الذي كان يعمل من خلال محاكم مدنية وجنائية باستخدام النسخة "المفرسنة" للقانون النابليوني، أوجدوا محاكم ثورية اسلامية يقوم الملالي بدور القضاة فيها. والى جانب البنوك التي تنظمها الدولة القومية، أنشأ الملالي صناديق بلا فائدة تُسمى صناديق "العدالة والكرم"، وصناديق "الإئتمان الصالح".

لتقليص دور الدولة القومية في الاقتصاد، صادر الحكام الجدد آلاف المصالح الخاصة والعامة ناقلين ملكيتها وإدارتها إلى "مؤسسات" لا تكتفي بعدم دفع الضرائب، بل تأنف عن نشر قوائمها المالية.

على الرغم من غلق الجامعات الإيرانية عامين، وتطهير أكثر من 10 آلاف أستاذ جامعي، فإن الحكام الجديد أخفقوا في أسلمة التعليم العالي. وبدلًا من ذلك، أوجدوا جامعات موازية بلغ عددها وقت كتابة هذا النص رقمًا فلكيًا قدره 2600 جامعة.

لا مشكلات

لعل الأكثر أهمية أن الحكام الجدد حولوا الدولة القومية تدريجيًا إلى واجهة في مسألة صنع القرارات. فالرئاسة ومجلس الوزراء والبرلمان أحادي المجلس ودوائر الدولة المختلفة والجيش النظامي والشرطة والأجهزة الأمنية تشكل واجهة تصنع السياسات والقرارات وراءها شبكة من المحاكم تتمحور حول "بيتِ رهبر" (دار القائد).

وجود إيرانين اثنتين جنبًا إلى جنب، إيران منعكسة في بنية دولة تعرضت لهزة قوية لكن ظلت صلبة، وإيران أخرى تعكس ثورة جامحة، أدى إلى وضع لا تستطيع أي من الإيرانين أن تعمل فيه بصورة كاملة من أجل مصالحها. يمكن أن نسمي هذا الوضع بتناذر الدكتور جيكل ومستر هايد، حيث مصالح إيران كدولة قومية وإيران كأداة للثورة لا تتطابق دائمًا. ينعكس تضارب المصالح هذا في جوانب عدة من سياسات النظام الداخلية والخارجية.

ليس لإيران كدولة قومية مشكلات مع أي بلد آخر. في الحقيقة، إنها البلد الوحيد في الشرق الأوسط، ومن البلدان القليلة في العالم، الذي لا مشكلات حدودية له مع جيرانه الستة عشر. كما كانت لإيران في حقبة ما قبل الثورة اتفاقيات تعاون وتجارة مع 32 بلدًا، بينها الولايات المتحدة. وكانت إيران أول بلد غير أوروبي تُمنح إمكانية تفضيلية لدخول "السوق المشتركة" باتفاقية وقعت في عام 1975. وكانت لإيران لجان اقتصادية مشتركة على المستوى الوزاري مع 30 دولة في القارات الخمس، واتفاقيات سفر بلا تأشيرة مع 40 دولة.

على المستوى الاقليمي، كانت إيران أحدى أول دولتين مسلمتين اعترفتا بدولة اسرائيل حديثة النشأة، وإن كان اعترافها على أساس الأمر الواقع، لكن بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية كاملة. في الوقت نفسه، كانت إيران مدافعة قوية عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والراعية الأصلية لأول قمة إسلامية عُقدت في العاصمة المغربية الرباط لتنسيق موقف العالم الاسلامي من القضية الفلسطينية. في عام 1917، أصبحت إيران البلد الوحيد الذي مُنح إمكانية كاملة لشراء الأسلحة الاميركية، باستثناء الأسلحة النووية.

قوة سلام

كدولة قومية كانت إيران تتمتع بمزايا أخرى. كانت إيران واحدة من ثلاثة بلدان مسلمة لم تستعمرها امبراطوريات أجنبية أو تقع تحت حمايتها. لكنها نفسها لم تصبح قوة استعمارية. كانت البلد الوحيد الذي لم يتورط في تجارة الرقيق العالمية، ومن أول الدول التي أقرت العهد الدولي لحظر العبودية. لم تشارك إيران في أي من الحربين العالميتين على الرغم من أن تحالفات متنافسة انتهكت حيادها في الحربين.

خلافًا للجارة تركيا، فإن إيران خلال الحرب الباردة لم تنضم إلى أي من الكتلتين العسكريتين المتصارعتين، حلف الأطلسي وحلف وارسو. كما رفضت المشاركة في الحرب الكورية والحربين في الهند الصينية.

حيثما قامت إيران بعمل عسكري، كما في حالة عُمان، كان ذلك لحماية مصالحها الأمنية كدولة قومية، وليس من أجل تحقيق هدف أيديولوجي. في أماكن أخرى، كما في المغرب والصومال والسودان وإيران، فإن المساعدة العسكرية الإيرانية كانت مدفوعة بالحرص على الاستقرار أو في مهمة لحفظ السلام بموافقة من الأمم المتحدة.

بحلول السبعينيات، أرست إيران بوصفها دولة قومية وجودها كقوة من أجل السلام بفضل أواصرها المتينة مع العالم الغربي وعلاقاتها الودية مع الاتحاد السوفياتي والصين. بفضل هذا التميز، رشحت الكتل المتصارعة في الحرب الباردة سفير إيران لدى الأمم المتحدة لرئاسة لجنة نزع السلاح ذات الأهمية البالغة في المنظمة الدولية. كما استضافت إيران محطات المراقبة المطلوبة في سياق معاهدة الحد من الاسلحة الاستراتيجية (سالت) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

ولأن إيران كانت تتصرف دائمًا كدولة قومية مسؤولة وملتزمة بالقانون، فإنها كانت محترمة من الجميع. لم تحاول "تصدير" ثورة وإثارة فتنة، ولم تستخدم الإرهاب قط كأدة سياسية. ولا يمكن قول الشيء نفسه عن "الدولة" الموازية التي أقامها حكام إيران الخمينيون منذ الثمانينيات. فهي دولة أُدينت كثيرًا، وفي كثير من الأحيان بما يبرر الإدانة، لاستخدامها الإرهاب بموافقة من أعلى مستويات القيادة كوسيلة لتحقيق أهدافها.

في بعض الأحيان، كانت القيادة الثورية تحمّل "عناصر خارجة عن السيطرة" مسؤولية أعمال إرهابية في الداخل والخارج. لكن، في كل حالة تقريبًا، كانت الأعمال الارهابية تُقتفى إلى أجهزة تابعة للدولة الثورية الموازية في طهران.

من تحت الطاولة

تعتبر الثورة الخمينية، مثلها مثل ثورات أخرى ذات طموحات عالمية، إيران قاعدة لنشر رسالتها العالمية من خلال شبكة ثورية عالمية لا تعترف بحدود. نتيجة لذلك، كانت غير مستعدة للاهتمام باحتياجات إيران وتطلعاتها كأمة ولا قادرة على ذلك. وعلى الرغم من إفراطها في استخدام معتقدات اسلامية، فإنها أخفقت حتى في تلبية الحاجات الروحية للشعب الايراني، ومن هنا النمو غير المسبوق لطوائف دينية ومنظمات مثل المسيحية على طراز حزام الكتاب المقدس في اميركا، ناهيكم عن الصوفية الفارسية التقليدية وحلقات "ميتافيزيقية" باطنية تزعم أنها تقدم بديلًا عن العقيدة الرسمية المدعومة من النظام.

في أغلب الحالات، أخفقت القوى الخارجية ذات المصلحة في إيران وخصوم النظام الجديد في الداخل في فهم الفصام السياسي الذي سببته الجمهورية الإسلامية. وهكذا، كانت سياساتها، ولنقل "خططها (أ)"، كلها تستند إلى الافتراض القائل إن ايران، على الرغم من النظام الحاكم في طهران، ستواصل التصرف بوصفها دولة قومية، تسعى إلى أهداف ومصالح مثل أي دولة قومية أخرى. لكنهم في الوقت نفسه كانوا على الدوام يختارون الأجهزة الثورية الموازية التي أوجدها النظام الجديد، مساهمين بذلك في عزل مؤسسات الدولة الإيرانية وإضعافها. وحتى اسوأ من ذلك، بعض الديمقراطيات الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، وافقت ضمنًا على توقيع عقود وإقامة علاقات مع الجمهورية الإسلامية خارج إطار القانون الدولي والممارسة الدبلوماسية المتعارف عليها. فأمَر كارتر رئيس موظفي البيت الأبيض هاملتون جوردان بأن يضع لحية مستعارة ويرتدي ملابس فاقعة للقاء شخصيات ثورية من طهران في باريس والبحث سرًا في أعمال تحت الطاولة. وأرسل ريغان اثنين من كبار مساعديه إلى طهران بجوازات سفر إيرلندية مزورة للتحادث مع مساعدي الخميني، من دون إطلاع الحكومة "النظامية" في إيران.

ذهب أوباما أبعد من ذلك بالالتفاف على مجلس الأمن الدولي والكونغرس الأميركي والوكالة الدولية للطاقة الذرية للتوصل إلى اتفاقه النووي سيء الصيت المعروف باسم خطة العمل المشتركة الشاملة من طريق مفاوضات ضمت لاحقًا بريطانيا والصين وألمانيا وفرنسا وروسيا.

قنوات سرية

كان لدى الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران جيش من المشبوهين، بينهم الكثير من العناصر المشرقية، كانوا وسطاء بينه وبين نظام الملالي في طهران. بحلول منتصف الثمانينيات، تمخض التعامل مع الجمهورية الإسلامية عن صناعة حقيقية في الغرب اجتذبت اليها مجرمين وتجار سلاح وعملاء مزدوجين وأفاقين من كل صنف. انتهى المآل ببعضهم في سجون أميركية وفرنسية بتهم لا تتعلق بتعاملهم مع إيران. وأقامت الحكومة الألمانية علاقات خاصة مع عناصر ثورية في طهران بخليط من الصفقات التجارية والخدمات السياسية. في مرحلة من المراحل، نظم جهاز الاستخبارات الألمانية إخراج وزير الأمن في الجمهورية الإسلامية آية الله علي فلاحيان الذي كان مطلوبًا بتهمة القتل من محكمة في برلين.

أصبحت ألمانيا وجهة مفضلة لعناصر الحرس الثوري الذي يحتاجون إلى علاج طبي، أو يريدون قضاء اجازات وعقد صفقات تجارية. اليوم، على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية مع ايران، تشكل كندا ملاذًا لشخصيات بارزة في الجمهورية الإسلامية وأطفالهم.

في بعض الحالات، كانت القوى ذات العلاقة تقرر غلق قنوات الاتصال مع الدولة الإيرانية الرسمية لصالح قنوات غير رسمية تقترحها شخصيات ثورية. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك عندما أنهت إدارة ريغان عقودًا مع حكومة رئيس الوزراء مير حسين موسوي لصالح قناة سرية جديدة فتحها تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي، والوسيط الايراني منوشهر سوزاني، تفضي في النهاية إلى الخميني. بكلمات أخرى، ما كان الخميني مستعدًا أن يسمح لرئيس الوزراء اختاره هو بالعمل من أجل اهدافه في حدود الدولة القومية الكلاسيكية. كان الخميني يريد تدمير الدولة الإيرانية مثلما حاول أن يحل الجيش الوطني.

أجرت المعارضة الداخلية للنظام تشخيصها الخاص الخاطئ بتركيز الهجمات على مؤسسات الدولة الإيرانية المهزوزة بشدة، متعللة في الوقت نفسه بالوهم القائل إن تكتلات داخل النخبة الحاكمة سُميت اولا "سازندكان" (البناة) ثم "اصلاح طلبان" (طالبو الاصلاح)، ستجد مخرجًا من الطريق المسدود الذي أوجدته الثورة.

ترسّخ الازدواجية

على الرغم من ذلك كله، أدركت النخبة الحاكمة الثورية الجديدة بحلول أواخر الثمانينات أنها لا تستطيع أن تدمر الدولة الإيرانية التي أبقت شبكتها الإدارية وذاكرتها التاريخية وخبرتها التقنية البلد عائمًا حتى في أسوأ الأوقات. وبحلول أوائل التسعينيات ترسخت هذه الازدواجية بوصفها سمة أساسية من سمات الحياة في ظل الجمهورية الإسلامية.

كانت القوى الخارجية والمعارضة الداخلية على السواء تطالب الثورة بما لا يمكن أن تقدمه إلا دولة. والمفارقة أن استخدام تلك الطريقة زاد ضعف الدولة ذاتها التي قد تكون وحدها قادرة على تلبية جزء في الأقل من المطالب، في مسعى إلى تحقيق مصلحة مشتركة.

بصرف النظر عن الطريقة التي تُحدَّد بها "المشكلة الإيرانية"، فإنها لا يمكن أن تُحل من دون إعادة ثقاقة الدولة (culture etatique) التي تتطلب بدورها اختزال الثورة إلى جزء من واقع تاريخي وسياسي ووجودي أكبر.

بكلمات أخرى، على إيران أن تكف عن كونها أداة للثورة، وأن تعود دولة قومية راغبة في تطوير استراتيجية قومية وليس استراتيجية ثورية، وقادرة على ذلك. هذا هو المكون المركزي لما نقترحه بوصفه "الخطة (ب)" لإيران. &

لا شك في أن إيران ستستوعب بمرور الوقت خبرتها الثورية وتعود إلى الظهور دولة قومية. فالثورة كنوبة الحمى، وما من كيان عضوي يستطيع أن يعيش إلى الأبد في دولة مصابة بالحمى. من دون العودة إلى أزمنة أقدم كثيرًا، فإن الثورتين الروسية والصينية في القرن العشرين انتهيتا إلى التلاشي في الظل، ولو بطرائق مختلفة، وبذلك أتاحتا عودة مؤسسات الدولة القومية إلى الظهور في البلدين. لا يعني هذا أن النظامين القائمين حاليًا في الصين أو روسيا مثال للحاكمية الصالحة ناهيكم عن كونهما مثالًا للديمقراطية. لكن المهم أن لا روسيا ولا الصين تتصرفان اليوم بوصفهما أداة ثورية تحرض على التخريب والعنف والحرب. من وجهة نظر الغرب، لا يمكن اعتبارهما دولًا صديقة، دعكم عن اعتبارهما دولا حليفة. لكن، لا يمكن أن تُعدا دولًا عدوة و/أو معادية. فهما، في مظهرهما الجديد كدولتين قوميتين، دولتان غريمتان ومتنافستان يمكن أن تصبحا بمرور الوقت وبمزيد من التطور دولتين شريكتين وصديقتين.

المفارقة أنه بسبب عدم نجاح الثورة الخمينية في تدمير مؤسسات الدولة بالكامل في ايران، كما فعل البلاشفة في روسيا والماويون في الصين، فإن الإشراف على عودة إيران دولة قومية قد يثبت كونه مهمة أقل صعوبة.

ما العمل؟

جرى تطوير عدد من الأفكار التي تستوحي الحاجة إلى قيادة إيران بعيدًا عن هياجها الثوري، وإعادتها إلى طريقها التاريخي بوصفها من أقدم وأرسخ الدول القومية في العالم. نوقشت هذه الأفكار بصورة متقطعة حتى داخل النخبة الخمينية الحاكمة.

تتعلق إحدى الأفكار بتوحيد القوات العسكرية الإيرانية الموزعة الآن على ستة كيانات مستقلة ذاتيًا. ما زال الجيش الوطني الإيراني سليمًا، وإن كان أصغر حجمًا وفي حدود مفروضة من الثورة. بفضل ذاكرته التاريخية والسمعة التي ما زال يتمتع بها عند الرأي العام وأساليبه العسكرية والثقافية والتنظيمية، فإنه تمكن من الاحتفاظ بشخصيته الخاصة من خلال تصديه لتحديات كبيرة في ظل النظام الثوري.

في منتصف التسعينيات، نوقشت رسميًا فكرة دمج الحرس الثوري الاسلامي، وهو منظمة أخفقت في اكتساب شعور من الاعتزاز بالانتماء والولاء بين أفرادها لأسباب ليس هنا مكانها، بالقوات المسلحة التقليدية لبناء جيش وطني جديد وكبير.

الفكرة الأخرى هي دمج المحاكم الثورية الإسلامية المختلفة بمحاكم وزارة العدل التقليدية العريقة، وتمكين الدولة القومية الإيرانية من استعادة السيطرة على القضاء. الإطار القانوني لمثل هذه الخطوة موجود، لأن المحاكم الثورية الإسلامية شُكلت في البداية لفترة خمس سنوات انتهت منذ زمن طويل. لعل الأهم أن اشخاصًا أقل يأخذون قضاياهم إلى مثل هذه المحاكم شبه الرسمية التي تُستخدم، أو بالأحرى تُستغل، لعرقلة النظام القانوني.

إيران كثورة حاضرة أيضًا من خلال عشرات المؤسسات وشركات الواجهة والمنظمات الخيرية التي تفتقر لأنظمة داخلية، قامت في البداية على أساس شركات القطاع العام أو شركات صودرت من مالكيها. وهي جزء من اقتصاد أسود موازٍ يعمل خارج قوانين الدولة القومية وأنظمتها. ومن خلال 30 شركة في الأقل، فإن الاقتصاد الأسود يمتد حتى إلى قطاع النفط بالغ الأهمية الذي يخضع إسميًا لسيطرة الدولة. وضع هذه الشركات تحت سيطرة شركة النفط الوطنية الإيرانية سيكون خطوة كبيرة نحو إعادة الدولة القومية الإيرانية.
&
سلطة الدولة

الفكرة الأخرى هي إعادة سلطة الدولة على قطاع التعليم الذي يهم بصورة مباشرة نحو 30 مليون ايراني في سن المدرسة. وخلال العقود الماضية صادر ملالي الثورة وشركاؤهم الكثير من المدارس الحكومية وحولوها إلى مؤسسات ربحية خاصة. من شأن إعادة المناهج الدراسية الوطنية ومجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية أن تساعد على تسريع عودة الدولة إلى الظهور بوصفها الإطار الرئيسي للوجود الوطني الايراني.

لكن، في نهاية المطاف، إعادة الدولة الإيرانية بصورة كاملة لن تكون ممكنة من دون إلغاء أجهزة مثل مكتب "المرشد الأعلى" ومجلس الأوصياء ومجلس الخبراء.

إن برنامجًا يقوم على إعادة الدولة تحت شعار "الدولة الإيرانية للأمة الايرانية" يمكن أن يعطي المعارضة هدفًا واضحًا يمكن تقييم أدائها على أساسه. مثل هذا الهدف المشترك يمكن أيضًا أن يوحد الكثير من خصوم النظام ومنتقديه بمن فيهم قسم من النخبة الحاكمة الحالية داخل المؤسسة العسكرية وجهاز الخدمة المدنية.

يمكن توجيه طاقات المعارضة التي يُهدر جزء منها الآن على سجالات أيديولوجية وتخيلات ذاتية رافضة وحتى طوباوية، نحو تدعيم مشروع ملموس يهدف إلى تغيير النظام من خلال إعادة بناء الدولة الإيرانية.

بقدر تعلق الأمر بالقوى ذات المصلحة في إيران، فإن التحليل النقدي للوضع الإيراني سيكشف وجود طريق مسدود لا يستطيع لصانع قرار في طهران أن يرسم فيه السياسات المطلوبة لتطبيع العلاقات مع العالم الخارجي ناهيكم عن تنفيذ سياسات كهذه. فالثورة لا يمكن أن تراعي القواعد التي وُضِعت لعالم من الدول القومية. لهذا السبب، لا يستطيع قادة إيران، حتى بأحسن النيات، أن يحلّوا حتى أبسط السياسات في مجال العلاقات الخارجية من طريق الدبلوماسية.

الإفتراض القائل إن استراتيجية الجمهورية الإسلامية تقوم على رغبة في الدفاع عن الإسلام وإشاعته افتراض خاطئ إلى حد بعيد إن لم يكن واهمًا. إن أمثلة قليلة ستجعل ذلك واضحًا.

تناقضات الملالي

في النزاع على منطقة ناغورنو - قرة باغ، وقفت الجمهورية الإسلامية دائمًا إلى جانب أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان حيث يشكل المسلمون الشيعة ذوو الأصول الإيرانية أغلبية السكان. وباستخدام خطابية شرسة ضد إسرائيل، يتبجح القادة الخمينيون بالتزامهم المزعوم قضية فلسطين كمثال على معاناة المسلمين تحت احتلال غير مسلم. لكن ليس لديهم ما يقولونه عن اضطهاد روسيا للمسلمين في الشيشان وداغستان أو اضطهاد الصين للمسلمين في شرق تركستان (شينجيانغ).

في اكتوبر الماضي، رفضوا منح تأشيرات لوفد من مسلمي الإيغور لزيارة إيران ورفضوا طلبًا منهم لفتح مكتب في طهران. كما أن الجمهورية الإسلامية لم تبدِ اهتمامًا يُذكر بتشريد بورما (ميانمار) أكثر من مليون من مسلمي الروهينغا.

خلال الأزمة اليوغسلافية، قام آية الله علي خامنئي حين كان رئيس الجمهورية الإسلامية بزيارة رسمية إلى بلغراد لإقامة تحالف مع الصرب باسم "وحدة عدم الانحياز". وكنتيجة مباشرة، مدت الجمهورية الإسلامية الصرب الذين أغلبيتهم من المسيحيين الارثوذكس، بالسلاح لقتل مسلمي البوسنة والمسلمين الألبان في كوسوفو. وحتى اليوم، ترفض الجمهورية الإسلامية الاعتراف بكوسوفو المسلمة كدولة لكنها تؤيد ضم روسيا لجنوب اوسيشيا ذات الأغلبية المسلمة أيضًا.

تنظر الجمهورية الإسلامية إلى السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس على أنها عدو، وفي الوقت نفسه تبقي العلاقات مع حماس في حدود ضيقة. ووكيلها الفلسطيني المفضل هي الجبهة الإسلامية الخاضعة تمامًا لطهران.

أوثق حليفات الجمهورية الإسلامية والأكثر ثباتًا خلال العقود الأربعة الماضية هي كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وزمبابوي وسورية التي لا تخضع أي منها لحكم مسلم.

في مواجهة الجمهورية الإسلامية في طهران، يجب أن تدرك القوى الخارجية أنها ليست في نزاع مع إيران كأُمة أو الاسلام كدين.

اعتماد خطاب معاد لإيران و/أو السلام من جانب قوى خارجية، كما هي الحال مع بعض الحكومات في الغرب والشرق الأوسط، إنما هو في أحسن الأحوال انحراف وفي أسوئها يمكن أن يشرعن ادعاء النظام بالدفاع عن الأمة ودينها. لكن في الممارسة العملية، حاولت القوى الغربية وحلفاؤها الإقليميون خفض مستوى الاتصالات مع عنصر الدولة القومية في واقع إيران المعقد لصالح العنصر الثوري.

مثال واحد: حين قطعت بريطانيا العلاقات الدبلوماسية مع إيران عقب هجوم شنه خمينيون راديكاليون على السفارة البريطانية في طهران، أمرت بغلق السفارة الإيرانية في لندن لكنها سمحت للسفارة غير الرسمية للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بمواصلة عملها من دون معوقات. وجرى تجاهل الحقيقة الماثلة في أن السفارة غير الرسمية أكبر بكادرها وأغنى بمواردها من السفارة الرسمية. وحتى بعد إعادة فتح السفارة الرسمية، لم يُسمح لها حتى بفتح حساب مصرفي تدفع من خلاله رواتب موظفيها فيما كانت السفارة غير الرسمية تستخدم تسهيلاتها المصرفية كاملة لتنفيذ عمليات بضمنها تمويل جماعات اسلامية متطرفة في بريطانيا.

لا تخدم الرسالة الخلاصية

ليست لندن العاصمة الوحيدة التي يحافظ فيها العنصر الثوري للجمهورية الإسلامية على سفارات غير رسمية فيها، إلى جانب السفارة الرسمية لإيران كدولة قومية. تعمل مثل هذه السفارات غير الرسمية في ما لا يقل عن 40 عاصمة بينها جميع العواصم الأوروبية تقريبًا زائد عشر عواصم عربية في الأقل، خصوصًا عُمان وقطر والإمارات والكويت. يمكن لغلق هذه السفارات غير الرسمية أو في الأقل المطالبة بدمجها بالسفارات الرسمية، أن يسهم في دفع إيران للعودة إلى التصرف كدولة قومية طبيعية.

بدا أن أغلبية القوى الخارجية نحَّت جانبًا بكل بساطة كل مظلة المعاهدات والاتفاقيات والأشكال التقليدية للتعاون التي أُقيمت مع الدولة الإيرانية قبل الثورة. يمكن لإحياء بعضها في الأقل أن يساعد على حل بعض مشاكل إيران مع العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه مساعدة القضية المتمثلة بإحياء ثقافة الدولة في طهران.

مثال واحد: بين إيران وأفغانستان معاهدة كاملة لتشغيل وضمان منظومة لتقاسم الماء في مناطق الأنهر الأربعة هاريرود وباريانرود وفرحرود وهرمند. وجُربت هذه المنظومة على مر السنين لمنفعة البلدين الجارين. لكن العنصر الثوري في طهران حاول الالتفاف عليها بالزعم أنها، بوصفها من مخلفات إيران الشاه، لا تخدم مصالح الرسالة الخلاصية للنظام. والمحزن أن الحكومة الأفغانية وافقت على تجاوز المعاهدة، ودخول لعبة وضع قواعدها أكثر الأجنحة تشددًا في النظام.

في عنق 20 دولة في الأقل، من إسرائيل وبريطانيا إلى زمبابوي، مليارات الدولارات من الديون لإيران في شكل قروض حصلت عليها أو نفط استوردته من إيران قبل الثورة. لكن، على الرغم من الأصوات التي ترتفع بين حين وآخر في طهران حول الموضوع لم يتحقق تقدمًا نحو تسديدها، لأن الثورة الإسلامية، بكوادرها الثورية، غير مستعدة لأن تجرب ما تفعله دولة قومية طبيعية في تنظيم العلاقات مع العالم الخارجي، وغير قادرة على ذلك.

أربعة عقود من تدني الأداء

فيما تستعد الثورة الخمينية للاحتفال بذكراها السنوية الأربعين، من الجائز تقييمها بوصفها أنموذجًا لتدني الأداء الصارخ، إن لم يكن الفشل الذريع.

حين بلغ عمر الثورة البلشفية 40 عامًا، كانت قد حولت روسيا من امبراطورية متداعية في القرن التاسع عشر إلى قوة عظمى في القرن العشرين، استطاعت أن ترسل أول انسان إلى الفضاء. كما نجحت في نشر أيديولوجيتها في أنحاء العالم وساعدت على ظهور كتلة من الدول الشيوعية القابلة بقيادتها، إن لم تكن متفانية لها. والحقيقة أن الاتحاد السوفياتي، بصرف النظر عن عيوبه الواضحة، تمكن من البقاء أربع عقود أخرى، كانت تعود، جزيئًا في الأقل، إلى تحوله الذاتي إلى دولة قومية من طريق مبدأ "الاشتراكية في بلد واحد" الذي حل محل شعار "الثورة الدائمة".

على الغرار نفسه، عادت الثورة الصينية في عيد ميلادها الأربعين إلى ثقافة الدولة، وسارت على طريق العودة إلى الحالة الطبيعية، وأقامت شبكة من الجيران الذين يشاركونها أيديولوجيتها، وأرست أسس إصلاحات وإنجازات مقدَّر لها أن تجعلها قوة اقتصادية عالمية كبرى.

لا يمكن أن يقال الشيء نفسه عن الثورة الخمينية. فما من دولة أخرى إعتمدت أنموذجها فيما تقف هي وحدها تقريبًا بلا أصدقاء، ناهيكم عن حلفاء ذوي صدقية. وبعد أربعين عامًا، إيران أفقر مما كانت عليه قبل الثورة، وكما يبين بوضوح تقرير أخير لأكاديميين ايرانيين، يشمل تدني أدائها كل مجالات التنمية البشرية تقريبًا.

النظام الخميني اليوم أشبه بالبناء المتداعي، حالة شاذة يجب أن تُحال إلى متحف التاريخ. على إيران أن تعود إلى الظهور كدولة قومية تطالب بالمكانة التي تستحقها في الأسرة الأممية. وقد لا ترقى الدولة القومية الإيرانية بعد إحيائها إلى النماذج المثلى، ناهيكم عن النماذج الطوباوية التي تصوَّرها كثير من الايرانيين وبعض القوى ذات المصلحة في ايران وحلموا بها.

لكن سيكون لها استحقاق التخلص من الأوهام التي أوقعت الكثير من الضحايا ودمرت حياة عدد أكبر وقادت بلدنا إلى طريق مسدود. تستطيع إيران بوصفها من أقدم الدول القومية في العالم أن تطوي صفحة الخمينية بأقل الأضرار لنفسها والآخرين. وإيران، بعملها هذا، ستحتاج إلى تفاني كل أطفالها ودعم كل أصدقائها والإرادة الطيبة لكل أنصار القيم العالمية للحرية والكرامة الإنسانية.

* دراسة قدمها أمير طاهري في ندوة خاصة، عُقدت في 27 نوفمبر 2018 في جامعة ويستمنستر اللندنية، حضرها ناشطون سياسيون إيرانيون ودبلوماسيون أجانب وأكاديميون وإعلاميون، تناولت الشأن الإيراني الداخلي والدور الإيراني الإقليمي والدولي والخيارات المتاحة للتعامل مع النظام الإيراني. &ترجمة عبد الاله مجيد.