في سياق "تعميق النقاش حول مقتضيات التطبيق الأمثل لورش الجهوية المتقدمة" في المغرب، نظم، مجلس جهة مراكش -أسفي، الثلاثاء، بشراكة مع ولاية جهة مراكش - أسفي، الثلاثاء، بمراكش، ندوة علمية، في موضوع "الجهوية المتقدمة رافعة للتنمية المستدامة".

إيلاف من الرباط: توزعت أشغال هذه الندوة العلمية، التي شهدت مشاركة مسؤولين وجامعيين وخبراء، فضلاً عن منتخبين ورؤساء مصالح وفعاليات من المجتمع المدني، والتي تدخل ضمن سلسلة ندوات تنظم عبر جهات المغرب، جلستان: أولى افتتاحية، وثانية علمية ألقيت خلالها مداخلات جامعيين وخبراء اقتصاديين تناولت التنمية الجهوية في إطار النموذج الاقتصادي الجديد، واللاتمركز والجهوية المتقدمة، فضلا عن عوائق وإكراهات تفعيل السياسات العمومية.

رافعة للتنمية
وقال أحمد اخشيشين، رئيس مجلس جهة مراكش - أسفي، في كلمته خلال جلسة الافتتاح، إن "مشروع الجهوية المتقدمة يستمد خصوصيته مـن كونه يروم، في الآن نفسه، تحقيق هدف توسيع حقل الديمقراطية التمثيلية الجهوية، وجعلها رافعة للتنمية الاقتصادية والبشرية المندمجة والمستدامة، بُغية الحد من الفوارق، وصيانة كرامة المواطنين، والنهوض بدينامية النمو، وبتوزيع منصف لثماره"، مشيراً إلى أن "المغرب اختار منذ الاستقلال الديمقراطية التمثيلية التعددية واللامركزية، كخيارين اسـتراتيجيين لا رجعة فيهما، ذلك أن هـذا النمط من الحكامة الترابية يمنح السكان، من خلال المجالس المنتخبة، سلطة تدبير شؤونهم المحلية. وقد مرت اللامركزية، على المستوى المؤسساتي، بمجموعة مـن المراحل الكبرى، انطلقـت أولاها في بداية الستينات، وتطورت بعدها عبر محطات حاسمة، خصوصا في سـنة 1976، التي شـكلت تحولا حقيقيا في مسار اللامركزية، تلتها مجموعة مـن الإصلاحات المنتظمـة والمتوالية سـنوات 1992 و2002 و2009".

 

جانب من الندوة

أضاف اخشيشين أنه "منذ صدور القانون التنظيمي المتعلق بالجهات رقم 111.14، وبعد مرور أكثر من سنتين على تطبيق الجهویة المتقدمة ببلادنا، وإجراء أول انتخابات مباشرة للجهات بتاريخ 4 سبتمبر 2015، واقتراب بلوغ الولایة الجهویة الجديدة منتصف طریق هذه التجربة، التي طالما اعتبرت الإطار المناسب لتحقيق التنمية المندمجة والمستدامة، یكون من المهم جداً فتح النقاش حول هذا الموضوع، من أجل تقییم المرحلة والوقوف عند مدى تنزيل مشروع الجهوية على أرض الواقع، ومدى تحقيق الجهوية المتقدمة للأهداف التي أحدثت من أجلها، وهو ما يُمكِّننا من طرح مجموعة من التساؤلات من قبيل: هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن سياسة عمومية جهوية؟ وهل تحقق البعد التنموي في عمل الجهات؟ وأي تنمية جهوية في ظل البحث عن نموذج تنموي جديد؟ وما هي حدود التقدم الحاصل لحد الان في مجال تطبيق القانون التنظيمي للجهة على مستوى التنظيم الإداري والموارد البشرية؟ وإلى أي حد تحقق التضامن بين الجهات؟ وما مدى المساهمة في الحد من الفوارق بينها؟ وأي دور للإعلام في التسويق الترابي؟".

خيار استراتيجي
وزاد اخشيشين قائلاً: "لقد تم الارتقاء بهذا المشروع المجتمعي من جهویة ناشئة إلى جهویة متقدمة، بعد تجربتین جهویتین سابقتین، انطلاقا من رؤية ملكیة تعتبر "الجهویة لیست مجرد قوانین ومساطر إدارية، وإنما هي تغییر عمیق في هیاكل الدولة، ومقاربة عملیة في الحكامة الترابیة"، وهو ما یتطلب القیام بإصلاح عمیق للمؤسسات على الصعید الجهوي والمحلي، وتفعیلا، أیضا، لما كرسه دستور الاول من یولیو 2011، وهذا ما یجعل من النظام الجهوي الجدید الذي أسس له دستور 2011 وأطره القانون التنظیمي للجهات، وتعزز بمجموعة من المراسيم التطبيقية الصادرة اخيرا، خیارا استراتيجيا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجوابا على إشكالية الديمقراطية المحلیة، وذلك بإسناد اختصاصات ذاتية ومشتركة ومنقولة للجهات في میادین التنمیة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من ناحیة، وبتعزیز مكانة رئیس الجهة واختصاصاته من ناحیة أخرى".

إضافة إلى المرجعية الدستورية والخطب الملكية، يضيف اخشيشين، فقد "خصص الإطار القانوني المؤطر للجهات مقتضيات دالة تمكن الجهات من وسائل التنمية المجالية، تتمثل أساسا في برامج التنمية الجهویة والتصاميم الجهویة لإعداد التراب، وتجعلها تحتل مكانة الصدارة في إعداد وتتبع هذه البرامج والتصاميم، وهو ما یفید أن جمیع المخططات التي ستتخذها الجماعات الترابية الأخرى في المیدان الاقتصادي والاجتماعي وغیرها من المیادین یجب أن تكون مطابقة لتلك المتخذة من طرف الجهة، وذلك من أجل ضمان نوع من التنسیق والحد من الفوارق والتداخل والاختلالات التي قد تكون داخل الجهة، وجعل هذه الأخیرة المؤسسة الترابية الوحيدة المسؤولة عن برمجة أرضیات وخطط مندمجة للتنمیة الجهویة".

آليات جديدة
اعتبر اخشيشين أن الإطار القانوني للجهویةكرس "نظاما لامركزیا قویا في أفق تحقیق الجهویة المتقدمة، وذلك من خلال التنصیص على المبادئ الأساسیة المؤطرة للجهة كجماعة ترابیة، وهي مبدأ التدبیر الحر، ومبدأ التضامن والتعاون، ثم مبدأ التفریع. كما أعطاها مكانة متمیزة في تحقیق التنمیة الجهویة وإعداد مجالها الترابي لبلوغ أهداف التنمية المندمجة والمستدامة المنشودة، وخولها اختصاصات مهمة ذاتية ومشتركة وأخرى منقولة".

محمد ضريف 

ورأى اخشيشين أن المشرع قد مكن الجهوية من وسائل وآليات جدیدة للاضطلاع بمسؤولياتها كإحداث الصندوقین اللذان نص علیهما الفصل 142 من دستور 2011، وهما صندوق التأهيل الاجتماعي لسد العجز في مجالات التنمیة البشریة والبنیات التحتیة الأساسیة والتجهیزات المختلفة، وصندوق التضامن بین الجهات لضمان التوزیع المتكافئ قصد تقليص التفاوتات بین الجهات، وإرساء التوازن الجهوي المنشود، علما أن موارد ونفقات هذین الصندوقين تحدد بموجب قانون المالیة للدولة، وفضلا عن ذلك تم التنصيص على الرفع من حصص الجهات من مداخيل ضرائب الدولة، وهي الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات، وإحداث الرسم على عقود التأمين، وذلك زيادة على حقها في الحصول على حصة من الضريبة على القيمة المضافة طبقا للنصوص الجاري بها العمل. كما أن المشرع خصص عددا من المقتضيات القانونية التي تكتسي في مجملها صبغة إصلاحية تتوخى تزويد المجالس الجهوية بما تحتاجه من هياكل إدارية تتلاءم وطبيعة الصلاحيات التنموية المسندة إليها".

مكامن خلل
واستدرك اخشيشين بالقول إن التجربة، في هذه المرحلة من التدبير الجهوي، قد "أبانت عن بعض مكامن الخلل التي تُكبل عمل الجهات، وفي مقدمتها غياب ميثاق اللاتمركز الذي يُشكل سندا لا مناص منه لتنزيل ورش الجهوية المتقدمة، ويُمكِّن من دعم الديمقراطية المحلية، وتطوير الخدمات الإدارية، وملاءمتها والانتظارات المحلية، ودعم فاعلية الإدارة اللاممركزة، عبر تحقيق انسجام السياسات العمومية على المستوى الترابي".

وسجل اخشيشين، في هذا الصدد، "عدم استكمال القوانين التنظيمية للجهات"، مشيرا إلى أن "تنزيل ورش الجهوية المتقدمة، يقتضي ضرورة استكمال المراسيم التطبيقية للقوانين التنظيمية، وتعميم الدوريات التفسيرية والدلائل التوجيهية التي همت المجالات القانونية والمالية والتقنية للجهات والجماعات الترابية الأخرى، وكذا آليات إعداد برامجها التنموية، والنظام الأساسي لمنتخبيها، وذلك حتى يتسنى توفير الإطار الملائم لهذه الجماعات الترابية، سواء مع الإدارة المركزية أو مع مصالحها اللاممركزة التي سيتم تمكينها من اختصاصات فعلية في إطار ميثاق اللاتمركز الإداري".

وزاد اخشيشين قائلا إن "التحدي الأكبر لجعل الجهة فاعلا أساسیا في التنمية الجهویة"، يبقى هو "تمویل برنامجها التنموي، وهو ما یُبین الأهمیة القصوى التي تكتسیها وسائل تمویل الجهات للنهوض بمسؤولياتها، فالتوفر على الإمكانيات المالیة اللازمة یمكن أن یجعل من الجهات فاعلا اقتصادیا أساسیا لتطویر الاقتصاد المحلي، كما أن تقویة الموارد الذاتية للجهة یُكرس استقلالها المالي، ویُقوي قدراتها على تمویل برامجها التنمویة والأولويات الواردة فیها، في حین أن توسیع الاختصاصات بأصنافها المختلفة یتطلب توفر الجهات على موارد خاصة وقابلة للتطور باستمرار".

تكليف لا تشريف
وبسط محمد صبري، والي جهة مراكش -أسفي، بعض النقط التي اعتبرها جوهرية، بخصوص كل نقاش يتناول ورش الجهوية المتقدمة: "الإرادة الملكية الراسخة والمتجددة للنهوض بالنموذج المغربي للجهوية المتقدمة كإطار ديمقراطي فعال لتحقيق تدبير جهوي مسؤول لقضايا الجهات في إطار تكاملي مع مراعاة واجب التضامن بين الجهات"؛ و"أهمية الاختصاصات الموكولة للجهات لتحقيق التنمية الجهوية مع وضع آليات متطورة للتدبير بما في ذلك مخطط التنمية الجهوية"؛ و"أن إنجاح ورش الجهوية التي تعد استراتيجية بالنسبة للمملكة رهين بتضافر جهود كل المتدخلين كل في مجال تدخله"؛ و"أهمية التوفر على موارد بشرية كفؤة قادرة على مواكبة هذا الورش الكبير مما يطرح تحدي التكوين والتكوين المستمر"؛ و"أهمية انخراط كامل لمؤسسات التكوين والبحث العلمي كشريك أساسي لإنجاح ورش الجهوية المتقدمة"، وأخيراً "أن تعزيز اللاتمركز الإداري يشكل حجر الزاوية لإنجاح هذا الورش الاستراتيجي".

وشدد صبري على أن الالتزامات التي يمثلها ورش الجهوية المتقدمة "تشكل تكليفاً قبل أن تكون تشريفاً"، خاتماً بـالدعوة إلى "مضاعفة الجهود وتكاثفها مع إيلاء أهمية خاصة لعنصر احترام مبدأ إلتقائية المشاريع والتدخلات لربح رهان الجهوية المتقدمة المندمجة والمستدامة".

سؤال التكوين والبحث العلمي
من جهته، اعتبر عبد اللطيف ميراوي، رئيس جامعة القاضي عياض بمراكش، أن التربية والتكوين تبقى المدخل الأساسي للتنمية المستدامة والمندمجة، مع إشارته إلى أن المغرب يشهد مع مشروع الجهوية المتقدمة "لحظة مفصلية وحاسمة في تاريخ مجاله الترابي وفي تطوير الدولة وتحقيق التنمية البشرية المندمجة والمستدامة وتوطيد الديمقراطية المحلية"، وأنه "لم يعد من الممكن الآن التفكير في أية برامج أو سياسة عمومية، أو التفكير في النموذج التربوي الجديد إلا من داخل الجهوية المتقدمة".

توجه حتمي
أما محمد عبد الرحمن برادة، الإعلامي ومدير نشر "موسوعة دفاتر الجهوية" فتحدث عن موسوعة "دفاتر الجهوية بالمغرب"، وقال عنها إنها تتكون من 12 كتاباً، تتضمن الصفحات الأولى من كل واحد منها تقديماً مشتركاً ومعطيات عامة حول الجهوية، فيما يتضمن الجزء الثاني معلومات متعلقة بكل جهة، مبوبة وملمة باقتضاب بأهم المميزات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ معتبراً أن هذه الكتب تعطي، أيضاً، مؤشرات اقتصادية واجتماعية متنوعة، ومن زوايا مختلفة تمنح إمكانية التعرف على المواقع التي تحتلها الجهة ومقارنتها مع جهات أخرى، مما يتيح إمكانية التواصل والتنافس.

وبعد أن شدد على أن "تحقيق التنمية بمختلف الجهات يبدأ بتشخيص حقيقي ونقدي لما تتوفر عليه الجهة من إمكانيات وثروات يتوجب معرفة خصوصيتها"، وأن "تنزيل الجهوية لم يعد ترفاً او اختياراً يمكن القيام به أو الاستغناء عنه بل هو توجه حتمي وضروري لرفع كل التحديات التي يواجهها مغرب الألفية الثالثة"، ختم برادة بالتشديد على أن "الجهوية، كما تمت صياغتها في النصوص، وكما تتبلور في الواقع، تحتاج إلى مواكبة إعلامية، تلقي عليها الأضواء اللازمة، باحترافية وموضوعية وبدون رهانات ذاتية".

نحو مركزية واسعة ذات جوهر ديمقراطي
من جهته، قال محمد الضريف، الخبير في التخطيط المجالي وإعداد التراب، في عرض له حول "اللاتمركز والجهوية المتقدمة"، أن اصلاح الجهوية يقود إلى مركزية واسعة ذات جوهر ديمقراطي في خدمة التنمية المندمجة البشرية والمستدامة، مشيرا إلى أن القوانين التنظيمية للجهة ومجالس العمالات (المحافظات) والجماعات أعطت اختصاصات واسعة للجهة وحددت آليات التشاور والحوار بإشراك المواطنين في تدبير الشأن العام.

وأضاف أن هذه القوانين تعتبر مكسبا مهما لتطوير الجهة، وأرضية صلبة لبناء مجتمع ديمقراطي قادر على رفع تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، موضحا أن مشروع الجهوية المتقدمة الذي تبناه المغرب يعد تجربة رائدة بالنسبة لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، باعتراف عدد من المؤسسات الدولية بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة.

وقال إنه " إذا كان تفعيل الجهوية وتطويرها مرهون بخلق إدارة جهوية فعالة وتعزيزها بالوسائل القانونية والمالية وبتوضيح الاختصاصات وتدبير يعتمد على الحكامة الجيدة والذكاء الترابي، فهو مرهون، كذلك، بإصلاح هياكل الإدارة المركزية وبتحديد العلاقات بين الجماعات الترابية".