دافع العاهل المغربي الملك محمد السادس عن اتفاقية إنشاء المنطقة الأفريقية للتجارة الحرة، التي اعتبر أنها ستشكل الإطار الأمثل لتعزيز التجارة البينية للدول الأفريقية وإرساء تنميتها على أسس صلبة.

الرباط: قال العاهل المغربي في خطاب وجّهه إلى القمة 31 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي المنعقدة في نواكشوط، وتلاه وزير الخارجية والتعاون الدولي ناصر بوريطة، إن "من المعاني التي ينطوي عليها الانتماء إلى أفريقيا اليوم، العيشُ على أرض تشكل فضاء خصبًا للكفاءات والمواهب، في أكثر من مجال، بما يؤهلها لاختصار بعض المراحل على درب التقدم، وتسريع وتيرة التنمية بالاستغلال الرشيد لمواردنا. وفي هذا الصدد، فإن إنشاء منطقة التبادل الحر القارية سيوفر لنا إطارًا متميزًا لتنشيط المبادلات، حيث سيمهِّد السبيل إلى إرساء تنميتنا الاقتصادية على أسس راسخة، ضمن فضاء مندمج، ويمكِّن من تعزيز القدرة التنافسية لأفريقيا، بفضل ما يزخر به هذا الفضاء من إمكانات واعدة، تتمثل في أكثر من مليار مستهلك".

كما أشاد العاهل المغربي في رسالته بالإصلاحات التي يقودها بول كاغامي، رئيس رواندا والرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي، على مستوى الاتحاد، وأهاب بأن "من شأن عملية الإصلاح المؤسساتي والمالي، التي أطلقها بكل شجاعة أخونا الرئيس بول كاغامي، أن تضع قارتنا على المسار الصحيح، الذي سيمكِّن من إحداث تحول كبير ومستدام، لا رجعة فيه"، مضيفًا أن هذا المشروع الإصلاحي الطموح يجسد "وعيًا حقيقيًا، يدعونا إلى الإسراع في بناء مؤسسات فعّالة، تعتمد آليات الحكامة المثلى، وتكفل الشروط اللازمة للقطع مع دوامة الفقر، ولتمتين الأسس الضامنة لانبثاق أفريقيا كقوة صاعدة، في كل خطوة تخطوها".

وقال العاهل المغربي: "لا يخفى علينا جميعًا أن هذه الدينامية المتواصلة، لا تستطيع أن تحجب واقع الحال، الذي يظل دون ما نطمح إليه. فكم من العراقيل والصعوبات لا تزال تقوِّض الجهود المبذولة، من أجل الارتقاء بقارتنا إلى مصاف القوى الصاعدة".

وأشار إلى أن "آفة الفساد التي ما فتئت تنخر كيان مجتمعاتنا، تشكل إحدى العقبات الرئيسة التي تنتصب في طريقنا"، منوهًا باختيار القمة الأفريقية لمعضلة مكافحة الفساد موضوعًا رئيسًا لأشغالها.

وقال العاهل المغربي في رسالته إلى قادة أفريقيا "إن مشكلة الفساد لا يمكن اختزالها فقط في بعدها المعنوي أو الأخلاقي. فالفساد ينطوي أيضًا على عبء اقتصادي، يُلقي بثقله على قدرة المواطنين الشرائية، لا سيما الأكثر فقرًا منهم. فهو يمثل 10 بالمائة من كلفة الإنتاج في بعض القطاعات الاقتصادية. علاوة على ذلك، يساهم الفساد في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية، وفي تقويض سيادة الحق والقانون؛ كما يؤدي إلى تردي جودة العيش، وتفشي الجريمة المنظَّمة، وانعدام الأمن والإرهاب".

أضاف قائلًا "وفي المقابل، لا يمكن أن نغفل ما نلاحظه في شتى الميادين، من مؤشرات إيجابية، وجهود حثيثة في مجال التصدي لهذه الآفة. فالتدابير المتخذة في هذا الشأن، ما فتئت تعطي ثمارها، وتحقق مكاسب مهمة على أرض الواقع. ففي خضم المعركة المتواصلة، من دون هوادة، في مواجهة الفساد، تحرز بعض بلدان قارتنا، وهي كثيرة، نتائج تضاهي أحيانًا ما تحققه بعض الدول الأكثر تقدمًا. وبالتالي، فهي نماذج تحفِّزنا جميعًا على أن نحذو حذوها في هذا المضمار. كما إن من شأن الإصلاحات المؤسساتية الجارية، داخل الاتحاد الأفريقي، أن تساهم بنصيبها في انبثاق ثقافة للتصدي لهذه الآفة". 

في هذا الصدد، تحدث العاهل المغربي عن التجربة المغربية في مكافحة الفساد. وقال "لقد أدركت المملكة المغربية بدورها ما للفساد من آثار مدمِّرة، فآلت على نفسها ألا تدخر جهدًا في سبيل القضاء عليه. فبعدما صادق المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في سنة 2007، قام بتطوير ترسانته المؤسساتية والقانونية ذات الصلة، حيث تمت ملاءمتها مع المعايير الدولية في هذا المجال. وسعيًا إلى توحيد هذه الجهود وتنسيقها، اعتمدت المملكة المغربية، منذ سنة 2015، استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، وأحدثت لجنة وطنية أُسنِدت إليها مهمة السهر على تطبيق أهداف هذه الاستراتيجية".

وشدد العاهل المغربي على أن هذه الاستراتيجية، التي يمتد تنفيذها على مدى عشر سنوات، تهدف "إلى تغيير الوضع بشكل ملموس ولا رجعة فيه، في أفق 2025، وتعزيز ثقة المواطنين، وتوطيد ثقافة النزاهة في عالم الأعمال وتحسين مناخه، مع ترسيخ موقع المملكة على الصعيد الدولي". وأشار إلى أن المغرب وسع أخيرًا اختصاصات الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها وعزز مهامها في مجال التتبع، وذلك بعدما كرّسها دستور 2011 كمؤسسة دستورية. وأكد الملك محمد السادس أن هذه المؤسسة ستساهم، حسب نص قانونها الجديد، "في تدعيم العمل متعدد الأبعاد، الذي تقوم به كل من الحكومة والسلطة القضائية في هذا المجال".

وقال العاهل المغربي في رسالته للقمة الأفريقية "ليست أفريقيا الأمس هي إفريقيا اليوم. ومن ثَم، تستدعي مكافحة هذه الآفة الاستفادة من جميع التجارب والخبرات، في إطار رؤية موحدة ينخرط فيها جميع الشركاء. ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتحول إلى شكل جديد من أشكال الهيمنة والضغط". وأضاف "لقد ولى الزمن الذي كانت فيه أفريقيا عبارة عن ثغور ومحميات تجارية لنهب خيراتها. فالفساد معضلة لا تنفرد بها أفريقيا وحدها دون غيرها. فهو ظاهرة عالمية تشمل بلدان الشمال وبلدان الجنوب، على حد سواء، وقد تقوّض الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي أقرتها المجموعة الدولية. ولا يسعنا إلا أن نستبشر خيرًا بما نلمسه اليوم، من وعي جماعي وإرادة حازمة، سيمكِّنان من احتواء هذه الظاهرة والحد من انتشارها".

وقال العاهل المغربي "إن الفساد ليس قدرًا محتومًا على أفريقيا. وبالتالي، ينبغي أن نضع محاربته في صميم أولوياتنا، طالما أنه يشكِّل أكبر عقبة تعوق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحد من طموح شبابنا. فمصلحة شعوبنا تقتضي، إذن، تحصين جميع الفاعلين في مجتمعاتنا من هذه الآفة، وتعزيز روح المسؤولية لديهم. ولا سبيل إلى إنجاح هذا الورش، إلا من خلال التزام سياسي صادق، ما دام التصدي للفساد ممكنًا، إن تضافرت حوله الجهود المخلصة على مستوى العمل الحكومي، وعلى صعيد المشاركة المدنية".

ودعا العاهل المغربي إلى "اعتماد التنسيق الدائم بين مختلف الفاعلين، من أجل مواصلة هذه المعركة، وكسب رهان الإصلاحات المؤسساتية، التي تم إطلاقها"، مشددًا على أن ذلك "هو السبيل الكفيل بضمان انخراط الجميع في هذا النهج، وتعزيز سلطة منظمتنا. وتحقيقًا لهذه الغاية، يتعيّن علينا ربط الأقوال بالأفعال، في كل لقاء من لقاءاتنا".

ونوه العاهل المغربي في هذا السياق بالعمل الذي تقوم به اللجنة التي شكلها الاتحاد الأفريقي تحت رئاسة الرئيس النيجيري محمدو بوهاري، والتي كلفت بوضع آلية إفريقية لمحاربة الفاسد، والتي قدمت لقمة نواكشوط تقريرًا في هذا المجال. وقال العاهل المغربي "وإني لعلى يقين أن الرئيس محمد بوهاري، سيطبع هذه المرحلة الجديدة ببصمته المميزة. فأنا أعرف صدق عزمه وقدرته على الإقناع وعلى تقريب الرؤى، من أجل توفير الزخم اللازم لرصد كل أشكال الفساد والممارسات المرتبطة به على جميع الأصعدة". 

أضاف العاهل المغربي "إن كسب هذه المعركة سيساهم في إعادة تشكيل الصرح الأفريقي، الذي نطمح إلى تسليمه أمانةً لأبنائنا: صرح يقوم على دعائم السلم والرخاء والتضامن".