تنشر "إيلاف" هذه الصفحات غير المروية في تأريخ شفوي لحقبة مهمة في التاريخ السعودي*، وفيها هنا شهادة ثلاثة موظفين أميركيين عاصروا قيام دولة إسرائيل وصعود الناصرية ونكسة 1967، كما عاصروا ردة الفعل السعودية عليها كلها.

إيلاف، واشنطن: ليس التاريخ ما يكتبه المؤرخون في كتبهم فحسب، ولا هو ما يكتنفه أرشيف الدولة من وثائق ومراسلات ووقائع اجتماعات ومؤتمرات، ولا ما هو في كتب التاريخ الأكاديمية التي تدرس جيلًا بعد جيل فحسب، فثمة جزء من هذا التاريخ يروى، تاريخ شفوي، تمامًا كهذه الصفحات التي تنفرد "إيلاف" بترجمتها ونشرها بتصرف، بعد حصولها على حق حصري من "جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي" (Association for Diplomatic Studies & Training)، التي جمعت ونشرت روايات يرويها أميركيون خدموا في السعودية بين خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته، أكانوا سفراء أم مسؤولين في أرامكو أو غيرها، وعاصروا التبدلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المملكة، في أثناء نشأتها.

&

الملك فيصل وبجانبه الملك سلمان&وكان أميرًا

&

في هذه الحلقة الثانية من المرويات الشفوية، يروي دايتون ماك، الذي كان موظفًا إداريًا في الظهران في عام 1948، ثم ملحقًا اقتصاديًا في سفارة بلاده بمدينة جدة في عامي 1948 و1949، أن فرقة سعودية كانت تقاتل في عام 1948 الإسرائيليين، أو اليهود، وعندما عاد أفرادها إلى أرض الوطن، عادوا بهدوء شديد، ونزلوا في "القشلة"، أي في ثكنة للجيش السعودي قرب جدار مدينة جدة، وقرب مقر السفارة الأميركية في ذلك الوقت.

&

جنود من القوات السعودية المشاركة في حرب 1948

&

لم يهتموا

بحسب ماك، كانت ردة الفعل الرئيسية حيال مسألة قيام دولة إسرائيل غير ملحوظة تقريبًا من جانب السكان المحليين، "فقد كانوا يهتمون أكثر بمصالحهم المباشرة، أي بالتجارة. كما كانوا يهتمون بالتنقيب عن النفط في المناطق الشرقية من المملكة، وحلّ مشكلاتهم مع أرامكو. كما كانوا يسعون إلى ترسيخ قوتهم في بلدهم".

يرى ماك إنه كان مشبعًا بالروح العربية، "إذ ارتبطنا بالعرب في دراساتنا، وتعمق ذلك مع فهمنا وجهة النظر العربية، فشعرنا أن العالم يُهمل وجهة نظرهم هذه لأسباب سياسية وعاطفية، لكنني أعتقد أننا بالغنا في الاقتناع بوجهة النظر العربية.

&

الرقيب السعودي عطالله المسعودي مشاركًا في حرب فلسطين

&

لا أقول إنها خطأ، لأن العربي يرى أنه على حق في موقفه. لكن بالنسبة إلى اليهودي، فإن موقفه هو الحق بعينه. لست عربيًا ولا يهوديًا، كنت مسؤولًا في وزارة الخارجية الأميركية. وأعتقد أن علينا اتباع السياسات التي رسمتها الإدارة التي نمثلها في ذلك البلد، والعمل على تنفيذها، وهذه أمثولة علينا تذكرها دائمًا".

يضيف ماك: "من السهل أن تصبح أكثر عروبة من العرب أنفسهم، إنه مرض يسهل الإصابة به في الخدمة بوزارة الخارجية، أي أن تتبنى مواقف أهل البلد في القضايا الأساسية".

تغير سطحي!

قضى دايفيد لونغ ثلاثة أعوام في السعودية، إذ كان موظفًا في القسم السياسي في السفارة الأميركية في جدة بين عامي 1967 و1970. في زمن حرب عام 1967، كانت الراديكالية العربية في أوجها.&

&

شهداء القوات المسلحة السعودية في نكسة 1967

&

يروي لونغ: "عندما خسر عبد الناصر الحرب، لم يكن باستطاعتك القول فعليًا إنه خسرها، لكن الكاريزما التي كان يملكها - وكان واحدًا من أشد الأشخاص شعبية وجاذبية، كما أعتقد، في القرن العشرين - تضاءلت واختفت. لم يكن هناك أي شيء يمكن أن يملأ الفراغ الذي تركه. ومضى وقت قبل أن ندرك أن ما أخذ مكانه، وما أصبح وسيلة الناس للتعبير عن استيائهم من أي شيء، هو الإسلام. ولا أعني هنا الإسلام كعقيدة، إنما أعني الإسلام السياسي الذي نعرفه اليوم. هذا لم يكن واضحًا على الفور للعديد من موظفي الخارجية الأميركية في ذلك الوقت".

&

تكفير عبد الناصر في جريدة عكاظ

&

بحلول عام 1970، حصل فتور في العلاقات الأميركية - السعودية بعد حرب 1967. تغيرت الأمور، لكن لونغ يصف هذا التغير بالـ "سطحي".&

يقول: "منحنا علاقتنا بالسعودية أولوية قصوى، وأخرجناها من دائرة العلاقة المسلّم بها، لا أكثر. فجأة، لم يكن للولايات المتحدة الكثير من الأصدقاء في الشرق الأوسط. كان لنا صديق قوي جدًا. لكن العلاقة لم تتغير فعليًا حتى الطفرة النفطية لسببين: أولًا، كان الإسرائيليون يقولون للأميركيين: ’نريدكم أن تنسجوا علاقات جيدة مع السعوديين. فلديهم النفط، ويجب أن تكون علاقاتكم بهم جيدة حقًا. ونحن لا نمانع هذه العلاقة، فلسنا معادين للعرب‘.&

وثانيًا، بعد الطفرة النفطية، أعتقد أن الإسرائيليين أدركوا أن الولايات المتحدة ربما تبيع إسرائيل مقابل برميل واحد من النفط، فصارت السعودية بالنسبة إليهم التهديد رقم واحد".

ما شتمه يومًا

إلى ذلك، يروي عيسى الصباغ، المسؤول والمترجم في السفارة الأميركية في جدة بين عامي 1957 و1964، تفاصيل مثيرة عن لقاء الأمير فيصل والرئيس الأميركي جون كينيدي في البيت الأبيض في عام 1962، بعد الأزمة في اليمن، إذ كان موجودًا. فالأمير فيصل أتى إلى الولايات المتحدة للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، ودعاه كينيدي إلى غداء عمل في البيت الأبيض. كان فيصل في حينه وليًا للعهد ووزيرًا للخارجية السعودية. يروي الصباغ: "تناولت المناقشة مسائل عدة، وكان كينيدي لطيفًا، حتى أنه أظهر معرفة بالمنطقة، ويبدو أنهم أحاطوه علمًا بتفاصيل مهمة في اليمن. كان يعلم بوجود الزيديين والشافعيين، وقال إنه سيبحث في المسألة اليمنية أكثر. وقد أثار إعجابي فعليًا".

&

الملك فيصل وجمال عبدالناصر

يتابع الصباغ: "وعد كينيدي الأمير فيصل بأننا سننظر في الوضع بمزيد من التفصيل. لم أعرف إذا كان ينبغي لنا أن نقول هذا، لكن ما جرى قد جرى. إن لم يتحسن الوضع في غضون تسعة أشهر، سيتعين علينا إعادة النظر في سياستنا في المنطقة. كان فيصل لائقًا دائمًا فلم يصدر منه يومًا أي انتقاد لاذع لعبد الناصر.

&في وقت لاحق، قال ’إن الولايات المتحدة حجبت المساعدات عن مصر، وكنا في ذلك الوقت نرسل الحبوب والنفط والقمح وكل ما يحتاجه الناس هناك كي لا يموتوا جوعًا‘. كان هذا عندما أظهر فيصل مرة أخرى مشاعر قوية.&

قال لي: ’لماذا تتعمدون تجويع الشعب المصري. بالنسبة إلي، لا أريد لبلدي الهدوء والسلام والعيش الكريم فحسب، بل أريد الاستقرار. هذا كل شيء. وما دام هناك شخص يعبث بالمنطقة، لن نحصل على الاستقرار، ولن نتقدم حتى بمساعدتكم. من دون استقرار، لا نحن ننجح، ولا أنتم تنجحون‘".

* ملاحظات:

• & تأريخ شفوي ينشر حصريًا في "إيلاف" أول مرة.
¥ & &أعدت "إيلاف" هذا التقرير بالتعاون مع الدكتور عودة أبو ردينة، ورئيسة موقع جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي سوزان جونسون &(Association for Diplomatic Studies & Training/ADST)، وبعد الإطلاع على مقابلات مع شخصيات أميركية شغلت مناصب دبلوماسية أو إدارية في السعودية في عقود مختلفة في القرن العشرين.&
¥ & &المقابلات جميعها منشورة ضمن مجموعة التاريخ الشفوي للشؤون الخارجية على موقع جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي - في فرجينيا، على الرابط: https://adst.org.
¥ & &جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي مؤسسة خاصة غير ربحية تأسست في عام 1986. وأنشأت أكبر مجموعة من التاريخ الشفوي الدبلوماسي، وتعمل على تنميتها. تؤمن الجمعية بأن هذه الروايات الآتية من أفواه رواتها مباشرةً تضيف سمتي العمق والسياق إلى فهم الدبلوماسية الأميركية وتاريخها الغني.