قم: على الرغم من الحضور الطاغي للثورة الإسلامية في مدينة قم الإيرانية، إلا أن ظواهر الحداثة بدأت تتغلغل إلى قلب العاصمة الدينية لإيران وتشكّل تحديًا للمتدينين.

تعتبر قم مهد الثورة الإسلامية، التي بدأت تظهر بوادرها في العام 1963، حين ألقى الإمام الخميني، الذي كان نجمًا صاعدًا في تلك الفترة، خطابًا ناريًا، هاجم فيه الشاه محمد رضا بهلوي، بسبب برنامجه الإصلاحي، المدعوم من الولايات المتحدة.

بعد عام، ألقى الخميني خطابًا جديدًا عارض فيه منح المستشارين العسكريين الأميركيين الحصانة الدبلوماسية، معتبرًا أن ذلك يضع "الشعب الإيراني في مستوى أدنى من مستوى كلب أميركي".

نُفي الخميني في ذلك الوقت من إيران، لكن الثورة التي أسس لها أعادته مظفرًا إلى البلاد في فبراير 1979، وأطاحت بحكم الشاه وأسست للجمهورية الإسلامية. في قم، لا يزال منزل الخميني والحديقة التي ألقى منها ذلك الخطاب على حالهما من دون أي تغيير.

يقول محمد يزدي، وهو تلميذ سابق للخميني، يتولى حاليًا الاهتمام بالمنزل، "لا شك في أنه كان صاحب شخصية قوية، لكن الأهم من ذلك أن خطابه كان واحدًا للجميع". يضيف "كان دائم التهذيب. إذا وجّه إليه أحدهم سؤالًا، وهو في طريقه إلى المسجد، يتوقف ويجيب عن السؤال".

تقع مدينة قم على بعد نحو 160 كيلومترًا جنوب العاصمة طهران، وهي أحد أكثر الأماكن المقدسة لدى الشيعة، وتعتبر الحوزة العلمية فيها ثاني أهم مرجعية دينية بعد النجف. وتعقد في المدينة عشرات المؤتمرات الدينية الشيعية، ويعتبر الكثير من أئمتها مرجعيات دينية.

مدينة في طور الحداثة
وشهدت المدينة تغييرًا كبيرًا مع ظهور جسور ومبان شاهقة، كانت في الماضي مظاهر مرفوضة من المؤسسة الدينية، باعتبار أنها تشكّل انتهاكًا لخصوصية المنازل المجاورة. وتعرض المحال الجديدة في واجهاتها عارضات بملابس سهرة براقة كانت لتستقطب تحذيرًا من الشرطة قبل بضع سنوات.

لكن بات يمكن حاليًا رؤية نساء من المدينة بملابس أكثر عصرية ذات ألوان زاهية، ولو أن لباس "التشادور" لا يزال هو الطاغي.

يقول العلامة مهدي أبو طالبي، الدكتور في العلوم السياسية في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والأبحاث في قم، إن هذه التغييرات المجتمعية لا بد منها. ويوضح لوكالة فرانس برس "هناك موجة قادمة، ومن الصعوبة بمكان أن نوقفها". يضيف أبو طالبي "إنه أمر طبيعي... بوجود الفضائيات وسهولة الوصول للإنترنت، بدأت الحداثة الغربية بدخول البلاد أكثر فأكثر، لذا تبدو قم اليوم مختلفة عمّا كانت عليه قبل بضع سنوات".

ويتابع العلامة لكن هذا لا يعني أن الإسلام قد فقد جاذبيته. وبالفعل، فإن مآذن مرقد فاطمة المعصومة، القلب النابض للمدينة، تصدح في كل أنحاء المدينة.

يقول أبو طالبي "الكثير من التغييرات التي ترونها تقتصر على القشور. الهوية الدينية للمجتمع لا تزال في العمق على حالها". ويقول زميله في المركز إبراهيم حسيني إن الثورة نجحت في وضع إيران على الخارطة العالمية.

يضيف "الأثر الأهم هو أن المسلمين والإيرانيين وجدوا هوية لهم في العالم"، ويتابع "الآن حتى رئيس الولايات المتحدة يشعر أنه مجبر على تهنئة الإيرانيين بعيد الفطر أو النوروز (رأس السنة الإيرانية)".

معركة حول التواصل&
وبات انتشار الاتصالات عبر الانترنت أخيرًا أكبر تغيير اجتماعي تشهده المدينة، ويشكل نوعًا من التحدي لرجال الدين. وتمكّن آية الله الخميني من استغلال شبكة لا مثيل لها من المساجد والمراكز الدينية في إيران لنشر رسالته ولتعبئة الحشود.

لكن السلطات الإيرانية تخوض اليوم معركة خاسرة ضد شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك مردّه جزئيًا إلى الانقسام الداخلي بين مؤيدي فرض رقابة مشددة على هذه المواقع على الطريقة الصينية، ومعارضي ذلك.

جاءت النتيجة على شكل تسوية. فعلى الرغم من حظر مواقع، مثل تويتر ويوتيوب وتلغرام رسميًا، يبقى الوصول إليها سهلًا عبر برنامج معلوماتي يتيح الالتفاف على الحظر، وهو ما يفعله معظم السياسيين.

ويعتبر العلامة أبو طالبي وغيره من مؤيدي الثورة الإسلامية المتحمسين أن الانخراط في هذه الوسائل الإعلامية الجديدة أفضل من محاولة حظرها.

ويقول أبو طالبي إن "جيلًا جديدًا (من المؤمنين بالثورة) قد دخل بقوة عالم الفضاء الإلكتروني. ذهبوا إلى جامعات يستخدمونها كنقطة تواصل مع الشعب. لقد نظّموا مهرجاناتهم الخاصة لتكريم أفلام تسلّط الضوء على الفكر الثوري والديني".