رفع مجهولون لافتة "النضال يستمر" على قبر أولريكا ماينهوف، مؤسسة تنظيم الجيش الأحمر الألماني اليساري المتطرف، ما ينذر بعودته إلى الحياة من جديد.

أمجد الشريف من برلين: عرضت مجلة "دير شبيغل" صورة لافتة موقعة باسم فصيل الجيش الأحمر ببرلين "راف برلين"، كتب عليها "النضال يستمر". ورفع المجهولون اللافتة على قبر أولريكا ماينهوف في 9 مارس الماضي، الذي يؤرخ موت مؤسسة التنظيم اليساري المتطرف، إلى جانب أندرياس بادر. و"راف" هو المختصر الألماني لكلمة "Rote Armee Fraction"، وكانت اللافتة مكتوبة بالأبيض على قماش أحمر، هو راية التنظيم السري.

بصمات التنظيم
اعتبر الخبراء في المجلة الألمانية المعروفة هذه اللافتة التي لم تروّج لها الشرطة إعلانًا عن انبعاث المنظمة من الرماد مثل طائر العنقاء. وكشفت "دير شبيغل" عن موقع على الإنترنت يعكس وجهات نظر المتطرفين اليساريين في العاصمة الألمانية، ويعتبر عودة التنظيم السري ردًا على تصاعد النشاط "الفاشي" الذي تتهاون الأجهزة الأمنية في مكافحته.

هذا يؤكد وجهات نظر العديد من الخبراء في تنظيم "فصيل الجيش الأحمر" الذين يعتقدون أن التنظيم إذا عاد إلى الحياة، فإنه لن يوجّّه عملياته هذه المرة ضد الدولة الرأسمالية، وإنما ضد العدو الأول لليسار، أي النازية واليمين الفاشي. ومن غير المستبعد أن يستهدف الجيل الجديد من "بادر- ماينهوف" قيادات التنظيمات النازية واليمينية الفاشية.

وإذا كانت الراية الحمراء على قبر أولريكا ماينهوف المؤشر الأول إلى عودة التنظيم اليساري المتطرف إلى الحياة، فإن عمليات سطو عدة حدثت في السنوات القليلة الماضية، وتحمل بصمات قادة التنظيم من الجيل الثالث المختفين، هو المؤشر الثاني.

شكلت شرطة ولاية الراين الشمالي فيستفاليا لجنة تحقيق خاصة في حادثة السطو على شاحنة مصفحة لنقل المال قرب مطار كولون-بون، حدثت في الأيام الاخيرة، ويعتقد رجال الشرطة أن الحادثة تحمل بصمات التنظيم السري الذي دوّخ الأمن الألماني أكثر من عقدين في القرن الماضي.

جيل رابع&
قال بنجامين رايمر، المحقق العدلي المختص بالجريمة المنظمة، إن عملية السطو تمت بتخطيط ومهارة وعرفية عالية، وببرودة دم لا يمتلكها سوى قلائل من المجرمين في ولايات برلين والراين الشمالي فيستفاليا وسكسونيا السفلى المتخصصين بالهجمات على ناقلات المال المصفحة.

أضاف الخبير أن العملية تحمل بصمات فصيل الجيش الأحمر، كما عثرت الشرطة على نماذج من الحمض النووي تعود إلى الثلاثة من أماكن السطو، وأن حادثتي سطو مماثلتين حصلتا في السنوات الأخيرة، كشفتا أن المسؤولين عن تنفيذها كانوا رجلين وامرأة من الجيل الثالث من التنظيم السري. واختفى الثلاثة بعد إعلان حل التنظيم في تسعينيات القرن العشرين، وتحوّلوا إلى أشباح لا تملك الأجهزة الأمنية الألمانية أي معلومات عن أمكنة تواجدهم، ولا عن الشخصيات الجديدة التي استخدموها للتمويه.

صورة تقريبية لأعضاء المنظمة المختفين

إن من السذاجة بمكان، بحسب رايمر، التفكير بأن هذه العمليات الثلاث نفذها ثلاثة إرهابيين متقاعدين لتمويل حياتهم السرية بعدما نفد احتياطيهم المالي. ويرجّح الخبير الذي درس كل تفاصل عمليات السطو المنسوبة إلى "راف" أن يكون الهدف تأسيس جيل جديد من فصيل الجيش الأحمر وتمويل عملياته.

الثلاثة هم إرنست - فولكر شتاوب (64 سنة)، وبوركهاردت غارويغ (50 سنة) ودانيلا كليته (60 سنة) الذين يعتقد أنهم يعيشون حياة سرية بأسماء وشخصيات جديدة في ألمانيا.

قال رايمر: "إذا كان الثلاثة بحاجة إلى المال، فأمامهم سبل أخرى لتحقيق ذلك غير السطو المسلح المحفوف بمخاطر كبيرة". وأكد أن الهدف أكبر من ذلك، وأنه يتعلق بتمويل الجيل الرابع من المنظمة.

عمليات سطو&
تحدثت شرطة ولاية سكسونيا السفلى آنذاك في مؤتمر صحافي في عام 2016 عن 6 عمليات نفذت في سكسونيا السفلى، إضافة إلى عمليتين أخريين نفذتا في ولاية شليسفيغ هولشتاين. كما كانت مدن سيلله وشتاده والمزهورن وأوسنابروك ونورتهايم وهيلدسهايم هي مسرح عمليات السطو التي نفذها الثلاثي، وغنموا فيها نحو 400 ألف يورو، منها 50 ألفًا في عملية نورتهايم، و100 ألف في سيلله، و135 ألفًا في شتادته، و46 ألفًا في المزهورن و60 ألفًا في أوسنابروك. وتوقع فيدراو أن تطول القائمة لأن التحقيق مستمر.

رجّح البعض آنذاك، مثل بوتز بيتر، الخبير في إرهاب منظمة جناح الجيش الأحمر، تفسير عودة نشاط الثلاثة إلى "إفلاسهم المادي" لا غير. وذكر الخبير أن "أيديولوجيا" المنظمة القائمة على تحشيد الشعب ضد الحكم من طريق العمليات المسلحة أثبتت فشلها بالنسبة إلى أعضاء المنظمة. ووصف بيتر العملية الأخيرة بأنها جريمة عادية غير مؤدلجة هدفها "توفير" المال اللازم لحياة التقاعد السرية التي يعيشونها منذ ربع قرن.

بحسب رايمر، من الممكن احتساب ثلاث عمليات أخرى في كولون فقط على حساب فصيل الجيش الأحمر. وهي عمليات سطو تحمل بصمات ثلاثي الجيل الثالث المختفي، وحدثت في عام 2018 في أحياء رودن كيرشن وغودورف ومطار كولون-بون.

شارك في العمليات رجلان وامرأة، بحسب الشهود، وتنطبق أوصاف الثلاثة مع أوصاف شتاوب وغارويغ وكليته في أعمارهم الحالية. وسبق للشرطة أن روّجت لصورهم المحتملة، إلا أنها لم تقع على أثر.

وكما في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، استخدم الثلاثة الرشاشات في السطو، وكانوا يطلقون النار ببرودة الدم، ولا تهمهم الخسائر البشرية. كما استخدموا سيارات مستعملة بأرقام مزيفة، وخططوا طرق الهروب بدقة متناهية.

عصابة بادر-ماينهوف
تأسس جناح الجيش الأحمر في نهاية الستينيات في خضم الحركة الاحتجاجية الطلابية وانتفاضة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على أفكار أهاليهم "أدوات النازية". وتعزز الميل إلى العنف بين فئة منهم بسبب الحرب الأميركية ضد فيتنام. وكانت حركة "المعارضة خارج البرلمان" و"اتحاد الطلبة الاشتراكي" في ألمانيا الأرض التي نمت في عمقها جذور "راف". وظهر حزب الخضر من البيئة اليسارية نفسها التي تحركت في اتجاه بيئي مخالف لنهج الكفاح المسلح في المدن.

بدأ الجيش نشاطه، والاسم مستوحى من الجيش الأحمر السوفياتي، بعد اجتماع تأسيسي شارك فيه أندرياس بادر وغودرون أنسلن وهورست مالر (ينشط حاليًا ضمن أحزاب اليمين الفاشي) وأولريكا ماينهوف وآخرون في عام 1970. قبلها، كان بادر ومجموعته قد بدأو نشاطهم بحرائق ضد بعض المخازن الكبرى في فرانكفورت، وأدت إلى اعتقالهم وسجنهم في سجن إصلاحي.

يعود اسم "عصابة بادر-ماينهوف" إلى تسمية أطلقتها مجلة "دير شبيغل" على المنظمة في مطلع السبعينيات. والحقيقة أن الناشطة الأساسية، إلى جانب أندرياس بادر، هي غودرون أنسلن، ولم يظهر اسم ماينهوف إلا بعد عملية تحرير بادر من السجن الإصلاحي وشاركت فيها كصحافية تود إجراء مقابلة معه يوم 14 مايو 1970.

لن تحقق الأهداف
يعتبر تحرير أندرياس بادر الشرارة التي أطلقت نشاط الجيل الأول من جناح الجيش الأحمر بقيادة بادر-أنسلن. وظهر البيان التأسيسي للمنظمة في مجلة "أغيت 883" اليسارية يوم 5 يونيو 1970 وصاغته أنسلن. وتكشف اعترافات الجيل الأول أنهم تلقوا التدريبات العسكرية في معسكرات منظمة التحرير في أغسطس 1970.

اعترفت قيادة "راف"، في بيان الإعلان عن حل المنظمة في عام 1998، بأن عملياتها المسلحة التي أودت بحياة 58 شخصًا من الطرفين، لم تستطع المساس بهيبة الدولة. يقول البيان إن المنظمة تعلن عن حلها لقناعتها بأن الأساليب التي تتبعها في النضال لن تحقق الأهداف السياسية التي تؤمن بها.

يرى المؤرخ المعروف فولفغانغ كراوسهار أن عمليات الاغتيال ضد رموز الدولة أدت إلى نتائج معاكسة، ولم تمس هيبة الدولة الألمانية، بل إن الإرهاب أدى إلى إقرار قانون الطوارئ الذي حدد الحريات الديمقراطية، وحدد نشاط المنظمات اليسارية في السبعينيات والثمانينيات.
&