حازم صاغيّة 

بلغة وكتابيّة تذكّران بالروائيّين المحترفين، غطّى أركادي أوستروفسكي تاريخ روسيا الاتّحاديّة منذ يوم ولادتها الأوّل، أي منذ خطاب ميخائيل غورباتشوف في 25 كانون الأوّل (ديسمبر) 1991 الذي أعلن فيه نهاية الاتّحاد السوفياتيّ.

ففي عمله هذا، «اختراع روسيا: صعود بوتين وعصر الأخبار الزائفة» (بنغوين للنشر)، ومن خلال تركيز خاصّ على تغيّرات الإعلام ووظائفه وتوظيفاته الكثيرة، وعلى تحوّلات الأفكار والأجيال، السوفياتيّة ومن بعدها الروسيّة، أدخلنا أوستروفسكي في التفاصيل، صغيرها وكبيرها، التي كان لتراكمها أن أنجب زعامة فلاديمير بوتين. فصعود هذا الأخير ليس مسؤوليّة أحدٍ بعينه، لكنّه مسؤوليّة الجميع معاً، أو مسؤوليّة التكوين الروسيّ الذي ساندته ظروف خارجيّة ملائمة.

والمؤلّف الروسيّ المولد عمل طوال 16 سنة في موسكو، مراسلاً لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانيّة، ثمّ رئيساً لمكتب الشؤون الروسيّة والأوروبيّة الشرقيّة في مجلّة «إيكونوميست» البريطانيّة أيضاً. وهذا ما يمنح روايته حيويّة يفتقر إليها الكثير من الكتابات التي تؤرّخ أحداثاً معاصرة، روسيّة كانت أم غير روسيّة.

 

«جيل الستينات»

لقد تعامل أوستروفسكي مع جيل الغلاسنوست والبيريسترويكا، أو «جيل الستينات»، ممّن أحاط أفراده بميخائيل غورباتشوف، بوصفه نقطة انطلاقه. فالجيل هذا أطلّ على الحياة العامّة مع «نزع الستالينيّة» على يد نيكيتا خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ عام 1956، ثمّ استقطبت إصلاحات خروتشوف تأييده وحماسته بوصفها مُفضية حتماً إلى تغيير كبير. ولئن أجفله انقلاب 1964 الذي أتى بقيادة جماعيّة ما لبثت أن انحصرت بيد ليونيد بريجنيف، فإنّ الصدمة الكبرى التي هزّت الجيل المذكور إنّما حدثت مع غزو تشيكوسلوفاكيا في 1968. آنذاك تأكّد أنّ الانسداد كامل ومُحكَم، وأنّ العفن وحده هو ما يقيم وراءه.

منذ ذاك الغزو حتّى صعود غورباتشوف أواسط الثمانينات، كانت الفكرة الرائدة، في هذا الوسط، تحميل البيروقراطيّة مسؤوليّة التردّي والعدوانيّة السوفياتيّتين وتبرئة الاشتراكيّة منهما. لا بل بدا له أنّ البيروقراطيّة هي التي تعتدي على الاشتراكيّة وتشوّه اللينينيّة «الحقيقيّة».

أمّا الإصلاح المرجوّ فلا يبدأ إلاّ بالعودة إلى «الاشتراكيّة ذات الوجه الإنسانيّ»، شعار الزعيم التشيكوسلوفاكيّ ألكسندر دوبتشيك، الذي عُزل بعد «ربيع براغ». وفي تأصيل هذه الوجهة كانت العودة دائمة إلى نيكولاي بوخارين: فالقائد البلشفيّ إنّما ارتبط اسمه (واسم لينين طبعاً) بـ «السياسة الاقتصاديّة الجديدة» (نيب) التي فتحت الباب أمام الاقتصاد الفلاّحيّ وأمام التجارة والتربّح، قبل أن يجتثّها ستالين ومعها يعدم بوخارين نفسه.

وكان أحد أسباب هذا الخيار أنّ بعض أنشط رموز الإصلاحيّين هم من أبناء بلاشفة قدامى، بعض آبائهم قضوا على يد النظام السوفياتيّ نفسه وبعضهم بقوا على إيمانهم، وأيضاً على امتيازاتهم، حتّى الرمق الأخير. وهذا الوفاء للأب إنّما لعب دوره في تعقيد القطع مع الماضي اللينينيّ، وفي البحث تالياً عن تسوية معه تقوم على «تنقيته من الشوائب البيروقراطيّة».

 

أين المستقبل؟

بيد أنّ مكافحة الحاضر باسم الماضي ليست الوسيلة المثلى للانتقال إلى المستقبل. وقد كانت هذه الإعاقة من أسباب بطء غورباتشوف وتردّده: فهو ضرب الجهاز والاقتصاد القديمين، وفي ظلّه تحلّلت الدولة والحزب، حتّى أنّ بوريس يلتسين ترك مختاراً موقعه كقائد للمنظّمة الحزبيّة في موسكو، كما استقال فيكتور شيرنوميردين (لاحقاً، رئيس حكومة في عهد يلتسين) من الوزارة ليتولّى إدارة شركة، إذ غدت الشركات، في العهد الجديد، أهمّ من الوزارات. لكنّ غورباتشوف، في المقابل، لم يخطُ أيّة خطوة جدّيّة وحاسمة في اتّجاه اعتماد بديل اقتصاديّ وسياسيّ وأيديولوجيّ كامل ومتبلور. وعلى رغم إنجازات كبرى تحقّقت في عهده، كالانسحاب من أفغانستان، ورفض استخدام العنف ضدّ ثورات أوروبا الشرقيّة والوسطى، ترك التردّد الغورباتشوفي نقطة سوداء أخرى تمثّلت في قمع ليتوانيا حين أعلنت، من طرف واحد، استقلالها في 12 كانون الثاني (يناير) 1991. هكذا سحقتها الدبّابات السوفياتيّة وقتلت، في عاصمتها فيلنيوس، 15 شخصاً، كما خلّفت 120 جريحاً، في ما بدا للّيبراليّين تكراراً، غورباتشوفيّاً هذه المرّة، لتشيكوسلوفاكيا 68. وهذا فضلاً عن أنّ ميخائيل غورباتشوف كان هو نفسه مَن ضرب قاعدة دعمه الليبراليّة وأبعد بعض رموزها من مواقع التأثير، تعبيراً منه عن استيائه من المطالبات الأكثر جذريّة بالإصلاح والأكثر حدّة وإصراراً عليه.

وفي النهاية، وكما هو معروف جيّداً، سقط غورباتشوف ومعه الاتّحاد السوفياتيّ بعد انقلاب غينادي ياناييف الشيوعيّ المتعثّر في 19 آب (أغسطس) 1991. وبشجاعة رئيس جمهوريّة روسيا بوريس يلتسين في التصدّي للانقلاب، ووقوفه فوق الدبّابة، تلك الصورة التي صارت أيقونة ومِعلماً من معالم التاريخ الروسيّ الحديث وانتقال روسيا إلى الديموقراطيّة، ظهر الرجل بوصفه البطل الشعبيّ المنقذ.

 

«النجاح»

لكنّ صعود يلتسين، بعد النهاية البائسة للغورباتشوفيّة، إنّما ترافق مع صعود جيل كاره للأفكار الكبرى، بل للأفكار من كلّ نوع. فلئن نظر «جيل الستينات» إلى الآباء بشيء من التقدير، محاولاً صون أفكارهم وأحلامهم بعد «تنقيتها من الشوائب»، فإنّ الجيل التالي نظر إلى الآباء، أي إلى «جيل الستينات» نفسه، بوصفه صانع الفشل ومبدّد الفرص. إنّ اشتراكيّته ليست أكثر من لزوم ما لا يلزم.

ذاك أنّ نظريّة العودة إلى اللينينيّة «الأصليّة» و «الحقيقيّة» بدت له مجرّد إعاقة تاريخيّة، مُسبّبة للفقر وكابحة عن الدخول في العصر والعالم. كذلك باتت استشارة روح بوخارين، أو حتّى دوبتشيك، للردّ على التحدّيات الراهنة، مدعاة لسخرية قطاعات أوسع وأوسع من السكّان، لا سيّما فئاتهم الأكثر شبابيّة ومدينيّة وطموحاً.

لقد حلّت محلّ الأفكار والأيديولوجيّات فيتشيّة «النجاح» وجمع المال بأيّة وسيلة كانت، وبالتالي اعتناق صورة مشوّهة وزائفة عن الغرب، خصوصاً عن «الحلم الأميركيّ»، يُراد تكرارها والتماهي معها. وبدورهم بدا هؤلاء المستعجلون من حاملي تلك اللا-أفكار عديمي المسؤوليّة حيال الشعب والدولة، وعديمي الأخلاقيّة في لهاثهم وراء مراكمة الأرباح بغضّ النظر عن الطريقة والأثمان التي ينطوي عليها ذلك. فهؤلاء معادون بالطبع للشيوعيّة وعودتها، لكنّهم معادون بالقدر نفسه لدولة القانون الرأسماليّة، تنصبّ معظم جهودهم على التفنّن في «ضروب الاحتيال» والتهرّب من دفع الضرائب.

 

يلتسين يعبّد الطريق

وهذا الخواء إنّما كان اللبنة الأولى في الابتعاد الشعبيّ عن السياسة، وتالياً في صرح البوتينيّة اللاحق. بيد أنّ عهد يلتسين صلّب، من مواقع مختلفة أخرى، هذا التأسيس لفلاديمير بوتين. فإذ استمرّ التدهور الاقتصاديّ وتنامى، جدّت وتلاحقت أمور تعجز أيّة حياة ديموقراطيّة صحّيّة عن احتوائها وتدويرها.

فبعد انتصاره المدوّي على الانقلابيّين، بدأ بوريس يلتسين يقدّم صورة مهتزّة، بل مُعيبة، عن رئاسة الدولة، وعن الدولة تالياً: فهو السكّير الذي يكاد لا يصحو، والمريض الذي لا تكاد تُجرى له عمليّة جراحيّة في القلب حتّى تُجرى له عمليّة ثانية. وإلى ذلك، بدأت أخبار الفساد تطاول ابنته تاتيانا دياشنكو وزوجها فالنتين يوماشيف وشلّتهما.

وانفجرت حرب الشيشان التي اندلعت في كانون الأوّل 1994 ثمّ تلاحقت فصولاً. لقد وقعت هذه الحرب، التي استنزفت العهد اليلتسينيّ، بين رغبتين تلتقيان، على رغم تعارضهما العميق، عند «ضرورة» إطالتها وتعميقها والحؤول دون الوصول بها إلى حلّ سياسيّ: رغبة بعض المحيطين بالرئيس ممّن رأوا فيها فرصة للالتفاف على مصاعب النظام ولانتزاع الورقة القوميّة من أيدي القوميّين والشيوعيّين، ورغبة بعض الجنرالات القوميّين والشيوعيّين من خصوم يلتسين وأعداء التحوّل الديموقراطيّ، في تحويل تلك الحرب ورقة انقضاض على الأوضاع الجديدة.

ثمّ، وبالاستفادة من الأزمة الاقتصاديّة، والتخبّط والارتباك الواسعين في الأفكار والمشاعر، نشأ وتوطّد ائتلاف الشيوعيّين والقوميّين، أو «تحالف الحمر والسمر». لقد جمعت بين الطرفين أسباب ومصالح كثيرة، منها العداء لـ «التغرّب» والرأسماليّة، وعدم تقبّل انهيار الإمبراطوريّة السوفياتيّة، خصوصاً استقلال أوكرانيا والقرم بسبب الروابط التاريخيّة والعاطفيّة، الاقتصاديّة والاستراتيجيّة، التي تربطهما بموسكو. وهذا ما اتّخذ أشكالاً عدّة منها المواجهة التي نجمت، في 1993، عن «الأزمة الدستوريّة الكبرى» حين أقدم يلتسين، بشكل غير دستوريّ، على حلّ برلمان ذي أكثريّة شيوعيّة، فردّ البرلمان، مدعوماً بميليشيات قوميّة وشيوعيّة حديثة النشأة، بالعصيان وعزل الرئيس. وفي النهاية، لجأ الأخير إلى قصف البرلمان واعتقال رموزه الذين حاولوا النجاح في ما سبق أن فشل فيه ياناييف ورفاقه الشيوعيّون. لقد نمّت تلك المواجهة عن ضعف الثقافة الديموقراطيّة وضعف قواها في عموم المجتمع الروسيّ.

وفي هذا الإطار، وللمرّة الأولى في روسيا، وُزّعت وبيعت، في 1992، نسخة كاملة بالروسيّة لكتاب أدولف هتلر «كفاحي». كذلك كان الصعود الديماغوجيّ «المفاجئ» الذي عبّر عنه، في الانتخابات العامّة في كانون الأوّل 1993، فوز فلاديمير جيرينوفسكي وحزبه الشعبويّ «الليبراليّ الديموقراطيّ» (!) بـ23 في المئة من الأصوات.

وأخيراً، كانت مواجهة 1996 في الانتخابات الرئاسيّة حيث تنافس يلتسين، وقد هزلت شعبيّته، والزعيم الشيوعيّ (القوميّ واللاساميّ) غينادي زيوغانوف. يومذاك تولّى الإعلام، أكان الرسميّ أم المملوك من الأوليغارشيّين الجدد، تصنيع صورة يلتسين وتزويرها بما ضمن له النجاح.

والأهمّ ربّما كان صعود الأوليغارشيّين، لا سيّما أوليغارشيّي الإعلام، الذين أفادوا من تصدّع الدولة ومن الخصخصة وبيع الممتلكات الرسميّة التي تلت مباشرة، ومن دون تدرّج أو تخطيط أو انتقائيّة، انهيار الاتّحاد السوفياتيّ. ولمّا كان هؤلاء، عبر إعلامهم وثرائهم، من ضمن نجاح بوريس يلتسن في الانتخابات الرئاسيّة عام 1996، خوفاً من انبعاث شيوعيّ مثّله غينادي زيوغانوف، فقد أصبحوا الطرف الأشدّ تأثيراً في السلطة. ونتيجةً لتعاظم دورهم، ضُربت الكتلة الليبراليّة التي استمرّت في دعمها يلتسين خوفاً من التحالف القوميّ– الشيوعيّ المستفيد من التدهور الاقتصاديّ والتراجع على المستويات كافّة.

 

بريماكوف...

لقد تحوّلت روسيا إلى سفينة تبحر على غير هدى وبلا قبطان أو بحّارة. وتفتّتت كلّ سلطة إذ توزّعت السلطة إلى كتل نفوذ متصارعة: الأوليغارشيا الماليّة، المتنافسة هي الأخرى في ما بين أجنحتها، والدولة المفتّتة بين الرئاسة والبرلمان والجيش والكي جي بي.

في هذه البيئة، تحوّلت روسيا، التي عاشت طويلاً على أيديولوجيا حديديّة مفروضة من أعلى، إلى بلد يفتقر إلى أيّ إجماع، بل إلى أيّة فكرة: لا تصديق لأحد، ولكنْ تصديقٌ لأيّ أحد وأيّة شائعة أو خرافة. وفي هذه الغضون تعاظمت قوّة التلفزيون ونفوذه، وهو الوحيد الذي «يجمع» بين ملايين المشاهدين الروس، في وقت غدت معه محطّات التلفزيون كلّها مملوكة من الأوليغارشيّين، يوجّهونها ويوجّهون أخبارها وبرامجها بما يخدم مصالحهم ويشهّر بخصومهم ويحطّمهم.

حيال هذا الانسداد، راح الحنين إلى الماضي الشيوعيّ والافتخار بالزمن السوفياتيّ يطلّ برأسه. ولئن كان كبار السنّ والمتقاعدون الأشدّ تعبيراً عن هذا الحنين، فإنّ الجمهور النوستالجيّ شمل قطاعات وفئات أخرى، معظمها من «الخاسرين» في لعبة عديمة الرحمة تشبه الروليت الروسيّة.

وفي أيلول (سبتمبر) 1998، وفي محاولة منه لتبريد الحياة السياسيّة والتصالح مع الكتل الشيوعيّة والقوميّة في البرلمان، وربّما أيضاً لتوسيع هامش مناورته حيال الأوليغارشيّين، عيّن يلتسين رئيساً جديداً للحكومة: إنّه أفغيني بريماكوف، الديبلوماسيّ والجاسوس السوفياتيّ السابق الذي درس العربيّة وخدم في مصر وكتب عنها وعن العالم العربيّ، كما أنشأ صداقات واسعة في العالم، خصوصاً في منطقتنا. لكنّ بريماكوف لم يتكاسل: فمنذ يومه الأوّل في رئاسة الحكومة بدأ يجري تغييرات تطاول خصوصاً الأمن والإعلام. وقد بدا للأوليغارشيّين، وكذلك لمن تبقّى من الليبراليّين، أنّ الرجل يملك أجندة لاستعادة النظام السوفياتيّ تدريجاً، وأنّ طموحه الشخصيّ والسياسيّ سيطيح حتماً بيلتسين، المتداعي على الأصعدة جميعاً، والذي تراجعت شعبيّته إلى الحدّ الأدنى.

وبالفعل فقد رسمل بريماكوف على العواطف الجديدة المنبعثة من إخفاق النظام ما بعد السوفياتيّ، ومن صداماته مع الأوليغارشيّين وتماديهم. وربّما كان أكثر ما ساعده في تصليب موقعه وتوسيع نفوذه انقلاب الموقف الشعبيّ الروسيّ من الولايات المتّحدة: ذاك أنّ أميركا لم تعد «الحلم» الذي كانته عند انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، بل صارت الكابوس الذي يصلح لتحميله كلّ أسباب الفشل الروسيّ.

وهذا لا يعني أنّ الولايات المتّحدة والغرب كانا بريئين من دم روسيا. ذاك أنّ واشنطن لم تبادر فعليّاً إلى إطلاق أيّ مشروع اقتصاديّ يشبه «مشروع مارشال» لإعمار أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية، كما أنّ البنوك الغربيّة، لا سيّما منها الألمانيّة، نشطت، بالتنسيق والتكامل مع الأوليغارشيّين والأغنياء الجدد، في «شفط» الرساميل الروسيّة إلى الخارج. كذلك، وفي عهد بيل كلينتون، قُرّر مدّ شبكة حلف شمال الأطلسيّ (الناتو) شرقاً، بعدما ساد الظنّ بأنّ الحلف المذكور، الذي نشأ بسبب الحرب الباردة، إنّما فقد مبرّرات استمراره مع انتهاء تلك الحرب بانتصار الولايات المتّحدة وكتلتها وأيديولوجيّتها.

لقد تجمّع ما يكفي من أسباب وجيهة للظنّ بأنّ الغرب، الذي كان يعيش فورة العولمة المرفقة بتصاعد النزعات الاقتصاديّة النقديّة والنيوليبراليّة، لا ينوي الاكتفاء بـ «الثأر» من الاتّحاد السوفياتيّ والشيوعيّة، بل يتقدّم لـ «الثأر» من المسألة الاجتماعيّة عموماً، وللتخلّص من إصلاحات الرفاه الاجتماعيّ التي سبق أن فرضها عليه التنافس مع الشيوعيّة والاتّحاد السوفياتيّ بعد الحرب العالميّة الثانية.

لكنّ صحّة هذا التقدير لا تلغي العطل الروسيّ العميق الذي أعاق الانتقال إلى الديموقراطيّة، وتجسّد في نُخب لا يُعوّل عليها في إنجاز تحوّل كهذا، وهو ما يبقى السبب الأوّل، والمحرّك الأوّل، وراء ما آلت إليه روسيا. وهذا بالضبط ما حاول بريماكوف أن يستثمره ويستثمر فيه، مستفيداً خصوصاً من التدخّل الأميركيّ في حرب البوسنة وقصف العاصمة بلغراد في 1998. فهنا، وبإرادويّة وافتعال وتضخيم مبالغ فيها، حوّل بريماكوف نزعة مناهضة أميركا إلى مبدأ سياسيّ يستجيب للمشاعر الشعبيّة المتفشّية بقدر ما يغذّيها.

وضدّاً على تقديرات كثيرة تفسّر الغضب الروسيّ بالتضامن السلافيّ مع «الإخوة» الصربيّين، يصرّ المؤلّف على أنّ السبب الفعليّ إنّما يكمن في العثور على كبش محرقة وعلى تبرير لانكفاء روسيا إلى سياسات العزلة القديمة ومناهضة الغرب.

وغنيّ عن القول إنّنا لا نستطيع فهم البوتينيّة اللاحقة من دون بند المناهضة هذه.

 

القائد المخلّص

بين اقتراحات وأسماء كثيرة نسبيّاً، وقع الاختيار على فلاديمير بوتين خليفةً لبوريس يلتسين (الذي لم يقتنع بمغادرة الحلبة إلاّ بصعوبة). تمّ ذلك بتسليمه رئاسة الحكومة في صيف 1999 تمهيداً للنقلة الكبيرة التالية. ومع أن صاحب الاسم لم يكن معروفاً إلاّ لقلّة قليلة جدّاً من الروس، فإنّ ندرة المعرفة به خدمته لأنّها عنتْ، في ذاك الظرف وبعد تلك التجارب، أنّ التحفّظات والمآخذ لا بدّ أن تكون أقلّ. لقد تبنّاه بوريس بيريجوفسكي بصفته أحد أكبر الأوليغارشيّين (وقد صار لاحقاً أحد أبرز ضحايا بوتين)، وسخّر الإعلام الذي يملكه ويسيطر عليه لتدمير منافسَيه المحتملين والقويّين، خصم الاثنين بريماكوف ومحافظ موسكو القوميّ المتشدّد يوري لوجكوف. وهنا، لعب الإعلام في التمهيد لانتخاب بوتين لرئاسة الجمهوريّة، في نيسان (أبريل) 2000، الدور نفسه الذي لعبه في التجديد ليلتسين عام 1996 في مواجهة غينادي زيوغانوف، مع فارق أساسيّ بين الحالتين: فيلتسين كان سياسيّاً معروفاً لعب دوراً تاريخيّاً في حياة بلده، فيما بوتين المجهول يكاد يكون مصنوعاً من الصفر. والحال أنّ صناعة كهذه بدت موضة رائجة مع حلول التقنيّات السياسيّة محلّ السياسة، وتحوّل المواطنين إلى مشاهدين، والواقع إلى تلفزيون.

على أيّة حال، لجأ بيريجوفسكي إلى إعلاميّ تلفزيونيّ مشهور وشعبيّ اسمه سيرجي دورينكو، و «لقبه القاتل»، وعلى يده صُنعت صورتان لبريماكوف ولوجكوف بوصفهما فاسدين وسارقين ومتورّطين في أعمال جرميّة. وفي المقابل، بات ظهور بوتين يوميّاً على الشاشة، بوصفه البديل ورمز الخلاص الأوحد. هكذا، حين بدأ دورينكو حملته الإعلاميّة كانت حصّة بريماكوف في استقصاءات الرأي العامّ 32 في المئة، وحصّة لوجكوف 16 في المئة، فانخفضتا بعد 15 حلقة تلفزيونيّة إلى 8 لبريماكوف و2 للوجكوف، بينما ارتفعت حصّة بوتين في الفترة نفسها من 2 إلى 36 في المئة.

لقد متّن بوتين تحالفه مع الأوليغارشيّين بتعهّده ألاّ يعيد النظر بالخصخصة التي تمّت في عهد يلتسين وألاّ يفتح ملفّات الفساد. لكنْ إلى ذلك، فالقليل الذي كان معروفاً عنه كان موضع تلاقٍ بين تيّارات متعدّدة ومتضاربة، ولأسباب لا تخلو بدورها من تعدّد وتضارب. فالقوميّون والشيوعيّون وجدوا فيه، كضابط رفيع سابق في الكي جي بي، التي تخرّج منها بريماكوف أيضاً، ما يبعث على الاطمئنان. هكذا مثّل «الاستمراريّة» مصحوبة بالتمايز عن يلتسين: فهو الصامت والحذر مقابل ذاك الثرثار، والرياضيّ ولاعب الجودو مقابل ذاك السكّير، والشابّ مقابل سلفه المترهّل المسنّ والمريض. ومثلما طمأن بوتين الروس إلى «استمراريّتهم»، لم يخلُ الأمر من زفرة كراهية للنفس الضعيفة والمهزومة في بيئات باتت يائسة من كلّ ما هو روسيّ. فقد ذكّر وجه بوتين بالوجوه «الآريّة» أكثر كثيراً ممّا بالملامح الروسيّة التقليديّة، مثلما بدت أقواله مختلفة عن أقوال السياسيّين «المتحذلقة» و «المواربة»، وأقرب إلى الكلام الذي هو كلام الروس العاديّين الموصوفين بأنّهم ضحايا السياسيّين. فوق هذا، وكما سبق الإلماح، فاسم بوتين لا يرتبط بأيّ ماضٍ سياسيّ، والمواضي الروسيّة كلّها سوداء: هو ابن الدولة السوفياتيّة لكنّه ليس شيوعيّاً، وقد عمل مع يلتسين من غير أن يقترن اسمه بعيوب عهده. وما بين هذين الحدّين، لم تربطه صلة ببريسترويكا غورباتشوف وغلاسنوسته المشؤومين.

إلى ذلك، عرفت ابنة يلتسين، تاتيانا، وعائلتها، أنّ بوتين لن يفتح ملفّات فسادهما. أمّا بقايا «الليبراليّين» فحفظوا له وفاءه لمحافظ سانت بطرسبورغ «الديموقراطيّ» أناتولي سوبشاك، الذي سبق أن عمل مستشاراً له للشؤون الخارجيّة. فعندما اتُّهم الأخير بالضلوع في الفساد ومُنع من السفر إلى الخارج، هرّبه بوتين إلى مستشفى في فرنسا.

ولم يكن ينقص «إلاّ الدفاع عن الأمّة». فضابط الكي جي بي الذي كان في ألمانيا إبّان هدم جدار برلين، وأحرق الملفّات الرسميّة التي كانت في عهدته كي لا تقع في أيدي «الأعداء»، يملك المواصفات التي تجعله قوميّاً جيّداً في نظر القوميّين، ومناهضاً ممتازاً للغرب وأميركا في نظر الشيوعيّين. إلاّ أنّ هذه الخلفيّة وجدت ما يعزّزها في حدث آخر: فقبل يوم واحد على تسمية بوتين رئيساً للحكومة، هاجم عدد من المتمرّدين الشيشان، على رأسهم شامل باساييف، داغستان المجاورة، بهدف إنشاء إمارة شيشانيّة هناك. هكذا أمر النجم الصاعد، وبمباركة من يلتسين، بشنّ حرب هي الثانية في خمس سنوات على الشيشان، سمّاها حرباً روسيّة للدفاع عن النفس.

على النحو هذا اكتمل تصحير روسيا سياسيّاً وفكريّاً، واكتملت شروط البوتينيّة المستفيدة من تاريخ الإخفاقات الروسيّة في الدمقرطة واللحاق بالحداثة، وأمكن بالتالي «اختراع» روسيا بالمعنى الذي يرمي إليه عنوان الكتاب، أي كدولة ونظام يمأسسان الضعف المتراكم ويعطيانه مظهر القوّة التي «يُستَقرّ» فوقها.