سعد البازعي

 حملت الأخبار مؤخراً قرار الولايات المتحدة الخروج من منظمة اليونيسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، وتصدر الخبر وسائل الإعلام متضمناً أن الخروج كان بسبب مواقف المنظمة تجاه إسرائيل، فيما أشار المندوب الأميركي لدى المنظمة إلى سبب آخر ذكره أولاً كما لو أنه السبب الأهم، وهو الإدارة المالية للمنظمة، لكن الجميع يعلم أن السبب الثاني، موقف المنظمة من الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما احتلالها للقدس، وعبثها بالمواقع الإسلامية، هو السبب الحقيقي.

وليس خافياً على الجميع أن علاقة الولايات المتحدة وإسرائيل بالمنظمة كانت دائماً علاقة مليئة بالصخور والأشواك، علاقة مضطربة أدت في عهد رونالد ريغان إلى انسحاب مماثل إلى أن أعادها جورج بوش الابن. وكانت مواقف المنظمة، أي مواقف الدول الأعضاء فيها، وهم يمثلون أمماً متحدة أخرى، مواقف مزعجة للولايات المتحدة. حكومة ريغان أشارت إلى تحيز المنظمة إلى الاتحاد السوفياتي في الثمانينات، وحكومة ترمب الآن تشير إلى تحيزها ضد إسرائيل. غير أن التقارير الصحافية تشير إلى أمر آخر هو أن الولايات المتحدة تدين للمنظمة بخمسمائة مليون دولار، وأنها كانت على وشك فقدان حقها في التصويت نتيجة لعدم تسديد الديون. لذا يأتي الانسحاب محاولة للتملص من دفع المبلغ لمنظمة تحتاجه حاجة ماسة، حسب ما ذكرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية.

التملص من دفع ديون منظمة ترعى الثقافة والعلوم والتربية، منظمة تدعم التعليم، وتساعد المبدعين، ومنهم الفقراء، وتحمي المواقع الأثرية والتاريخية، بقدر ما فيه من جرم يحمل أيضاً ازدواجية مخجلة. كيف لمن يتملص من دفع ديونه أن يتهم منظمة بالعجز عن إدارة شؤونها المالية! أعطها حقوقها ثم طالبها بإدارة تلك الحقوق. صحيح أن المنظمة تعاني من مشكلات مالية وربما إدارية، لكن إصلاح تلك المشكلات يتم من خلال العمل من داخل المنظمة وليس بالانسحاب منها. المنظمة تخضع لرقابة أعضائها وهم القادرون على إصلاحها.

لكن على صعيد آخر كيف يمكن لأحد أن يرفع صوته بالشكوى من قرارات ديمقراطية، وهو يدعي الدفاع عن الديمقراطية! الولايات المتحدة تخوض حرباً باسم الديمقراطية وتخسر ليس المليارات، وإنما الترليونات غارقة في ديون غير مسبوقة في التاريخ لتمويل تلك الحروب، ثم تعجز عن دفع مبلغ زهيد نسبياً لمنظمة تعمل بآلية ديمقراطية وتناصر الحقوق البسيطة للإنسان في كل مكان!؟

الحقيقة هي أن موقف أميركا وإسرائيل معها يكشف الوجه الحقيقي للديمقراطية المدعاة، مثلما يكشف الموقف الحقيقي من الثقافة والتعليم. الانسحاب الأميركي من اليونيسكو يؤكد ذلك بقدر ما يؤكده انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية البيئة التي تسير في الاتجاه الإنساني ذاته الذي تسير فيه اليونيسكو. فنحن أمام استراتيجية معادية لكل ما هو إنساني بكل أسف.

قبل خمسة أعوام انضممت إلى مجلس يدير صندوقاً تابعاً لليونيسكو مهمته دعم الثقافة بتلقي طلبات الدعم لمشاريع صغيرة ودراستها لتوفير الدعم لها حسب إمكانات الصندوق. ما فاجأني وأحزنني في الوقت نفسه هو أن الصندوق أنشئ قبل انضمامي له بعدة سنوات بتبرعات من عدة دول، كانت المملكة العربية السعودية إحداها، لكنه جمد فيما بعد. ولم يكن السبب وراء تجميده واضحاً لكن بدا لي ذلك واحداً من الأخطاء التي يمكن أن تحدث في منظمة تؤثر فيها البيروقراطية، وربما سوء الإدارة المالية أيضاً. فاليونيسكو ليست بريئة تماماً من الأخطاء، لكن وجود تلك الأخطاء لا يبرر الانسحاب منها أو التملص من دفع مستحقاتها.

لقد اكتشفت سريعاً بعد سفري إلى باريس لحضور اجتماعات المجلس الذي انضممت إليه الوضع المالي للمنظمة، الذي اتضح في حجم التقشف الذي تفرضه من خلال المصاريف الضئيلة التي توفرها للأعضاء القادمين من خارج فرنسا، ومع أن ذلك لم يكن مريحاً لأنه يفرض على العضو أن يتحمل جزءاً من التكاليف إن هو أراد توفير قدر أدنى من الراحة، فقد شعرت أن تلك المشكلة تتصل بمشكلة أكبر، وهي موقع الثقافة والتربية والعلوم على المستوى الدولي. لاشك أن الدول تتفاوت تفاوتاً كبيراً في دعم هذه المجالات ليس من خلال مقدراتها فحسب، وإنما أيضاً من خلال سياساتها التي تعكس رؤيتها لهذه الأمور وتقديرها لأهميتها. فسيكون من المفارقات الباعثة على الضحك الساخر مقارنة ما تنفقه أكثر الدول فقراً على التسلح بما تنفقه على التربية التعليم، ناهيك عما قد يعد ترفاً أو مرحلة متقدمة من التنمية مثل الثقافة أو العلوم.

إن اليونيسكو من الوجوه المضيئة للأمم المتحدة، ولم يكن اختيار باريس، عاصمة النور، مقراً لها مصادفة. لكن السياسة والمصالح اللاإنسانية أحياناً، كما في شجب مواقف اليونيسكو تجاه الشعب الفلسطيني وحماية حقوقه، تظل من النقاط المظلمة التي لا تفتأ تطفو على السطح لتذكر بأن المشهد الإنساني العالمي قد يكون عالمياً دائماً، ولكنه ليس إنسانياً إلا لماماً. انسحاب الولايات المتحدة تحديداً مؤلم بوصفها القوة الدولية الكبرى اليوم، ولأنها تمثل حضارة عريقة وحاضنة لبعض من أجمل ما أنتجته وتنتجه البشرية من علوم وتقنية وثقافة وفنون، ولأنها تمثل تاريخاً من النضال ضد الظلم والعنصرية. لكن بعض قرارات وأفعال نظامها السياسي يقف ضد ذلك التاريخ ليذكرنا بأن الولايات المتحدة تختزل أيضاً بعضاً من أسوأ ما شهدته البشرية من تفرقة عنصرية وعنف وتدخل ظالم في حياة الشعوب الأخرى باسم الديمقراطية والتقدم. الانسحاب من منظمة ترعى جوانب حضارية في حياة الإنسان من أجل كيان يغتصب مقدرات الإنسان، مقدرات شعب آخر ويحتل أرضه، مثال فاقع على ذلك التخلي عن منجزات كبرى في التاريخ الأميركي تحديداً، وإساءة لكثير من رموز ذلك التاريخ ومنجزاته.