صالح الديواني

المصداقية في النشر هي النقطة الأصعب التي لم تتمكن كثير من وسائل التواصل الحديثة من تحقيقها حتى الآن، إذ ما زال المتلقي ينتظر تأكيدا للخبر عبر الصحف الورقية

نتفق بشكل أو بآخر على أن التحولات الكبيرة التي حدثت في العالم على مستوى تقنية الاتصالات التي شرعت الباب على مصراعيه لكثير من وسائل التواصل الاجتماعي، أدت إلى تراجع تصنيف الصحف الورقية عند معظم المتلقين للمادة الخبرية والمعلوماتية أو التثقيفية الأدبية وغيرها، وجعل كثيرا منها يعيش أزمة حادة على عدة مستويات، منها ما هو مالي ومنها ما يتعلق بالجانب المهني، وعلى الرغم من ذلك لا يزال كثير منها صامدا ويصدر بشكله المعتاد!
ترى ما النقاط التي تتكئ عليها الصحافة الورقية في ظل هذا الوضع، ومكنتها من الصمود حتى الآن؟!
أغلب من تحدثت معهم في هذا الأمر قالوا إنهم لا يصدقون ولا يثقون مباشرة بالأخبار المنقولة عبر مواقع ووسائل التواصل الإلكتروني المختلفة إلا بعد صدورها في صحف ورقية، وهو ما يشير إلى أن الثقة ما زالت ضئيلة جدا في هذه الوسائل ويضعها في المرتبة الثانية على هذا الجانب، على الرغم من تفوقها فيما يعنى بسرعة نقل الخبر والمعلومة.
لقد خاضت الصحف الورقية من قبل معارك عنيفة مع ظهور الراديو ثم التلفزيون، اكتسبت على إثرها خبرة في التعامل مع مثل هذه التحديات الجديدة، وهي مرشحة من وجهة نظري أيضا للحفاظ على مكانتها على نحو ما، والبقاء في المنافسة لوقت أطول مما يعتقد البعض من المتشائمين، إذ تظل نقطة المصداقية هي المفصل الحديدي الذي تراهن عليه هذه الصحف، فهي تعني (الثقة) التي لا يقبل المتلقي بديلا عنها، وهي الثقل الذي أسسته الصحف الورقية منذ عقود طويلة عبر تاريخها، إضافة إلى أن الجودة المهنية فيها مرتفعة قياسا بالصحف الإلكترونية ووسائل التواصل الحديثة، ولذة الشعور بالورق التي اعتاد الإنسان على التواصل معها نفسيا وروحيا منذ عدة قرون. 
صحيح أن الصحف الورقية فقد ميزة التفرد بنقل الخبر وسرعة نشره، إلا أنها اشتغلت على ما وراء الخبر، الأمر الذي جعل التنافس بينها يصل إلى ذروته حتى اليوم، وهو أحد أهم الأسباب التي ساعدت على صمودها وجاذبيتها لدى المتلقين.
المصداقية في النشر والنقل هي النقطة الأصعب التي لم تتمكن بقية وسائل التواصل على اختلافها من تحقيقها بشكل يوازي الصحف الورقية حتى الآن، إذ لم يشفع لها عامل السرعة في النقل الخبري والمعلوماتي عند القارئ الذي ما زال ينتظر تأكيدا له عبر نشره في الصحف الورقية. ولإيضاح الصورة أكثر، قال خبر نشرته صحيفة الوطن في عددها 5433 الصادر بتاريخ 15 أغسطس 2015، «إن العدد الإجمالي الحالي للصحف الإلكترونية المرخصة في المملكة -بحسب متحدث وزارة الثقافة والإعلام- بلغ 750 صحيفة، لم يتلق منسوبوها التدريب الذي يؤهلهم للعمل الصحفي الذي لا يتوافر إلا في الصحف التي تعمل بمنهج مؤسسي ومقبول. وإن الوزارة رفضت الترخيص لصحف إلكترونية أخرى بسبب تدني الشهادات العلمية للمتقدمين بطلب الترخيص لصحفهم، وفشلهم في إيضاح الرؤية والرسالة للصحيفة»، وهو ما يعني أن الطريق لا يزال طويلا وشاقا عليها للدخول أصلا في المعركة، هذا محلي فقط.
على المستوى العالمي خلصت دراسة جديدة أجراها أستاذ الاتصالات في جامعة لندن، البروفيسور نيل ثورمان، إلى أن الإعلام الورقي ليس مستعدا بعد للاستسلام للإعلام الإلكتروني، وعلقت مجلة «بوليتيكو» الأميركية على بحث ثورمان قائلة، إن 88.5% من إجمالي الوقت الذي يقضيه الناس في بريطانيا في قراءة 11 صحيفة وطنية -جارديان، تليجراف، تايمز، ميل، ميرور، وصحف أخرى- يكون مكرسا لقراءة النسخ الورقية، وحوالي 7.49% من وقت القراء يذهب إلى الهواتف الذكية، ويذهب 4% فقط لأجهزة الكمبيوتر الشخصي.
هذه الدراسة تراهن نتائجها على صمود نقاط الثقة والمصداقية وهوس تصفح الصحف الورقية وتلقي الأخبار منها وأمزجة الناس أيضا، وتميل نتائج معظم الدراسات والبحوث في ما يعنى بالنشر الإعلامي والقراءة إلى أن الورق ما زال له سحره وحضوره الفريد، فقد أوقفت مجلة «النيوزويك» الأميركية إصدارها الورقي في ديسمبر 2012 بعد 80 عاما من أول ظهور لها، لكنها عادت مجددا في نهاية العام التالي إلى الورق، وعلق يومها بعض الصحفيين البريطانيين «عدنا منتصرين». والسؤال الذي يطرح نفسه، كم من الوقت نحتاج إلى أن تتحقق نقطة المصداقية لدى الصحف الإلكترونية ووسائل التواصل الحديثة؟ أظن أن ذلك مرهون بما ستشكله ثقافة الأجيال القادمة.