خلف الحربي

بين ليلة وضحاها اختفت الصحوة.. هكذا مثل مارد أسطوري كان يرعب القرى فاكتشف الناس فجأة أنه ليس أكثر من خرافة بائسة، ومثلما كان وجود الصحوة مرعبا فإن نهايتها كانت مضحكة، حيث بدا الأمر وكأنه نهاية برنامج الكاميرا الخفية حين يكتشف الإنسان أن كل ما واجهه في حياته من غرائب ليس إلا مقلباً ثقيل الدم، وليس عليه الآن سوى الابتسام للكاميرا ببلاهة كي يتأكد المشاهدون أنه ليس غاضبا!

وإذا كان المثل يقول: (لا طاح الجمل كثرت سكاكينه) فإن الصحوة لم تكن جملا صبورا، بل كانت وحشا قبيحا فتت عظام الأمل ومزق أحشاء الحياة الطبيعية، لذلك لم يكتف الناس بشحذ السكاكين حال سقوطها، بل قذفوها بالأحذية والحجارة وكل ما تطاله أيديهم، وهذا سلوك مفهوم بعد ثلاثة عقود من التشوهات الاجتماعية والإنسانية التي صنعتها.

ولكن الاستمرار في ذم الصحوة والانتقام منها في كل مناسبة فيه مضيعة كبيرة للوقت، فإذا كان ما مضى من سنوات العمر قد ضاع هباء منثورا بسبب قيود الصحوة وحواجزها فسيكون من الغباء أن نضيع بقية العمر في مطاردة شبح غاب من حياتنا ولَم يعد له وجود، وواجبنا الْيَوْمَ استغلال هذه اللحظة التاريخية في صناعة غدنا المختلف.. إنها فرصتنا الثمينة في أن نروي أشجار الأمل بالحب والتسامح والإبداع.. ألسنا نقول إن الصحوة هي التي أعاقت تقدمنا؟، حسنا.. لقد انتهت وعلينا أن نبدأ فورا العمل كي يكون بلدنا في طليعة البلدان الطموحة والمتقدمة.

نعم قد يكون نقد مرحلة الصحوة مهما للاستفادة من دروس تلك المرحلة وكي لا يعود الشبح بثياب جديدة، ولكن يبقى العمل الدؤوب من أجل صناعة الغد الذي نحلم به هو الضمانة الوحيدة كي لا يضيع الوقت بينما نحن نستعيد الذكريات المحزنة.

لقد استغل الألمان الفرصة التاريخية التي توفرت لهم بالتخلص من النازية بأن ألقوا بها خلف ظهورهم ليصنعوا ألمانيا العظيمة التي نراها الْيَوْمَ، أما العراقيون الذين توفرت لهم الفرصة التاريخية بالتخلص من حزب البعث فقد أضاعوا الوقت بمطاردته في كل مكان ونبش قبره الفكري كل يوم وتناسوا صناعة يومهم الجديد حتى أصبحوا في حال أسوأ من حال البعث، ولن يكون غريبا أبدا لو ذهبوا هم أنفسهم يبحثون عن الوحش البعثي في كهوف النسيان كي يعيدوه إلى سلطته القديمة محمولا على الأكتاف!.