فهد الدغيثر

 عشية الرابع من هذا الشهر، قفزت السعودية مراتب عدة في طريقها للانتقال نحو العوالم الأولى. من أهم معايير العالم المتقدم، بجانب الأنظمة السياسية المتطورة، الشفافية ومعاقبة المفسدين تحت مظلة القانون من دون أي اعتبار للأسماء أو الصفات. قبل ذلك عشنا مع «رؤية الغد» الطموحة ومع الدعوة لنشر التسامح ومع الإعلان «المزلزل» بالقضاء على التطرف وبعودة الفن والسماح بقيادة المرأة وحضورها الملاعب وبمدينة «نيوم» والكثير. كل ذلك حدث ويحدث في الـ24 شهراً الماضية. قفزات هائلة لتعويض ما فات من تجمد وتردد وركود وضياع هائل لفرص التنمية، كان ارتفاع أسعار النفط سبباً له من بين عوامل أخرى.

يقول المطور العقاري الأميركي سام زيل بعد ما تم تداوله من أخبار متصلة بالفساد في السعودية مساء السبت الماضي: «لقد تأخرت (الإصلاحات) كثيراً، لم يكن لدى الأمير محمد بن سلمان أي خيار، وأنا اليوم لست قلقاً، ومستعد أكثر من أي وقت مضى للاستثمار في المملكة العربية السعودية» (بلومبيرغ). أما صحيفة «وول ستريت جورنال» فقدرت إجمالي المبالغ التي قد تعود إلى خزانة الدولة السعودية من حسابات من ستتم إدانتهم بحوالى 100 بليون دولار.

لست معنياً بالأسماء التي تم تداولها في قضايا الفساد ولا بالأرقام، إذ إن الأهم هو الإجراء غير المسبوق الذي فاجأنا إلى درجة الذهول. جميعنا كسعوديين نعرف أن الفساد طال عمره وتحول إلى عمل شبه روتيني أو مؤسساتي حاضر في معظم المعاملات لقضاء الحاجة وتسيير الأمور، سواء تحدثنا عن طلب رخصة بناء أو تأشيرة سائق في مقابل ألفي ريال تدفع لطرف ما، أو للموافقة على ترسية مشروع، أو تمرير صفقة سلاح. وندرك أن هناك فرقاً بالطبع بين من يؤسس للفساد ويمارس الابتزاز ضد الآخر ويعطل مصالحه في سبيل مصلحته الشخصية، وبين من ركب هذه الموجة فقط كونها منتشرة، وبين من يضطر أن ينجز أعماله ويدفع، وكل هؤلاء مشتركون في ارتكاب المخالفة المحرمة في نهاية الأمر، وإن بدرجات متفاوتة.

غني عن القول أن المملكة وفي السنوات القليلة الماضية تستشعر أهمية الوقت، وتقدم على خطوات لا يمكن تفسيرها إلا كونها تسير في سباق محموم مع الزمن. لذلك، تبدو الأفعال والقرارات ضخمة وهائلة، وهي كذلك، ولكن بسبب قياس السرعة التي تسير بها تدفع البعض منا إلى نوع من القلق الإيجابي. هل بمقدورنا تنفيذ كل ذلك؟ ما الأخطار التي قد تظهر على السطح وتتسبب في تعطيل أو تأخير هذا القرار أو ذاك؟ تساؤلات مشروعة، لكنني أتوقع وبعد سنة من اليوم على الأقل ستصبح هذه الإجراءات عادية، وتقبّلنا إياها سيتحول جزءاً من حياتنا وسيعتاد المواطن والمقيم كل هذه المستجدات ويستمتع بمناخ أفضل. المهم هو تفاعلنا مع هذا التحول بالروح الإيجابية والتفاؤل، حتى مع بعض التضحيات وفقدان بعض المكتسبات الضيقة إن وجدت.

على أن الحاجة إلى التحول الكامل نحو دولة القانون تحديداً أصبحت ملحة وحاسمة. نعم خرجت أنظمة، ولكن بقيت أخرى وبقيت الحاجة إلى عقول مدربة تطبق ذلك على الأرض. القضاء العادل المنصف يأتي في مقدمة هذه القائمة. ليس فقط في تعريف وتطبيق الإجراءات الخاصة بالتلاعب بالمال العام، بل لتوفير بيئة قانونية تشجع على ضخ المال في مشاريع الغد. لا يوجد لدى أي مستثمر عامل أكثر أهمية وحساسية من توافر الأنظمة التي تحمي حقوقه واستثماراته، ومتى غابت هذه الأنظمة غابت الاستثمارات.

للاستدلال على أهمية ما يحدث في السعودية عليك عزيزي القارئ الاطلاع على ردود الفعل. هناك ردود فعل نزيهة سرّها ما سمعته وتتمنى للمملكة ولكل الدول العربية الخلاص من الفساد والتقدم والنماء، وترى خطوات المملكة مثالاً يحتذى. في المقابل هناك ردود فعل شعرت بالضيق، كون مثل هذه الإجراءات ستزيد قوة الوطن وتماسكه وارتفاع مدخراته ومستوى ثقة الشعب بقيادته. سبب الضيق بالطبع هو رهانهم الخاسر المؤسس على فشل الحكومة في بناء دولة جديدة تملك أدوات القوة والبقاء للمستقبل البعيد. وقد خرج بالفعل ما في صدور هذه الفئة من غل لاحظه القاصي والداني، إما عبر تحليلات بثها بعض القنوات «المهنية» أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إن كان الملك عبدالعزيز هو مؤسس الدولة السعودية الثالثة التي صمدت لما يزيد على ٨٠ عاماً على رغم التقلبات الخطرة سياسياً واقتصادياً، فالملك سلمان سيعتبر رائد الانتقال بهذه الدولة إلى مصاف الدول الكبرى. ما تم الإعلان عنه من مشاريع غير مسبوقة في البلاد وما سيأتي من مشاريع أخرى لن يحسن فقط من مداخيل الوطن أو من نسب البطالة، بل سيخلق عقولاً واعدة قادرة على تحويل الآمال والطموحات إلى واقع. عندما يتحقق النمو الاقتصادي وتنضج القدرات والمواهب البشرية الوطنية القيادية والعاملة في خطوط الإنتاج ويقل الاعتماد على الأجانب في المواقع الأكثر حساسية فأنت تعيش في وطن يزرع أشجار القوة والمنعة والقيم العالية والمبادئ العدلية الصارمة. هذا حلم المؤسس العظيم وحلم الملوك الذين تعاقبوا على الحكم من بعده، وقد بدأنا نراه واقعاً لأبنائنا وأحفادنا في أقل من قرن.