أسماء الزهراني

منذ شكلت النيابة العامة، لتكون جهة محايدة مستقلة لمحاسبة الجميع، عرفنا أن الأوان آن ليكون للقانون هيبة، ولتطمئن قلوب أصحاب الحقوق المسلوبة، وينام المواطن قرير العين..

يحتفل العالم اليوم بالسعودية الجديدة، قبل أن يحتفل بها شعبها، لأنها لم تكن ولن تكون يوما دولة على الهامش، بل هي ملتقى طرق قارات وحضارات وثقافات ومصالح، محط نظر آسيا وأوروبا وإفريقيا، تجمع روح الشرق وحداثة الغرب، وتحتضن قداسة الوجود بين مكة والمدينة. ولعلني أفضل «السعودية الحديثة»، والحداثة والجدة مصطلحات تحيل إلى التغيير، وإذا كانت الجدة ضدًا للقدم، بدون تحديد لقيمة القديم والجديد، فالحداثة تمثل قيمة المعاصرة، والتماشي مع متطلبات العصر، مقابل التقليد الذي يقف عند معايير ترتبط بالأشخاص، ولا تتحرك مع الزمن. وللتغيير سكك واتجاهات ودرجات، فقد يكون التفافا هينا، وقد يجيء استدارة ناعمة، وقد يأتي زلزالا عنيفا، هكذا تجيء السعودية الحديثة، وفي يمينها زلزال يجتث جذور الفساد، وفي يسارها إعصار يعصف بما ارتفع منه على الأرض. 
طالما كلف الإصلاح الجزئي -الذي يسير خبط عشواء- الدولة أضعاف ما كلفها الفساد، وكأننا نبني شارعا وفق أعلى المواصفات، ثم نحفره لإدخال خدمة جديدة، فنتكلّف نفقات الحفر إضافة إلى البناء، ثم نحفره ثالثة لإصلاح مشكلة سببها العمل التالي، فنتكلف ضعفي ما كلفنا البناء الأصل. وهذا مجرد مثال لما يحدث من عقود، في خطط خمسية وعشرية تعدّها وزارات أعمدة في الدولة، وتطالها أيدي الإهمال والفساد، ثم يثبت عدم جدواها إن لم نقل فشلها، فتكون الخسارة المضاعفة ثمنا لرؤية منقوصة للإصلاح، وتنفق الدولة ميزانيات هائلة لترقيع ما شوهته يد الفساد والإهمال، من دون طائل. 
وفي ذلك النموذج المنقوص للتغيير نشهد مسؤولين مخلصين، يحاولون الإصلاح، وتعطلهم أذرع الفساد الباقية في المؤسسات في الصفوف الثانية والثالثة من القيادات، حتى أصغر الإدارات، أحدهم يحمي ظهر الآخر. على هذه الخلفية التي يعايشها المواطنون جيلا بعد جيل، كنا ولا نزال نجد العذر للعقبات التي تبطئ نجاح وزير فذ ومخلص مثل معالي الدكتور «توفيق الربيعة»، الذي حمل على عاتقه إصلاح وزارتين: التجارة والصحة، الوزارتين الخدميتين الأكبر، على الرغم مما يبذله من مجهود خارق، واحترافية عالية في الإدارة، منضبطة بضمير حي وحس وطني عال. وليس معاليه إلا مثالا على أن الحوار الناعم مع الفساد هو مشكلة لا حل. 
هنا تجيء الحاجة إلى نهج آخر في التغيير، بدرجة وسرعة وقوة صارمة، تعتمد على الاجتثاث الكلي للنموذج 
الذي نشأ الفساد وتغلغل داخله، والبناء من القواعد، فمهما كلف هذا الأمر سيؤسس لعمل نقي ممنهج من الأساس، غير قابل للاختراق، وفق حوكمة شاملة، لكل مفاصل المؤسسة، وجاء الحل في لجنة عليا لمحاربة الفساد، تملك الصلاحيات لتطبيق هذا النهج الصارم، من دون عوائق بيروقرطية، ولا مجاملات. 
هكذا أعلنها ولي العهد، رئيس اللجنة العليا لمحاربة الفساد، «لن ينجو فاسد كائنا من كان»، قولا وفعلا، وانطلقت اللجنة تحقق الرؤية التي أعلنها سموه: «سنهدم لنبني»، فأخذت تبحث عن رؤوس الفساد، لتنقب عن أذرعته، وتنتزعها، في خطة تعامل جاد حازم شمولي، سيعيد للوطن المال المنهوب، بل سيعمل على تقنين الإنفاق، لإيقاف الهدر المالي، لصالح الشكليات الفارغة، التي تحتفي بها الضمائر الميتة! وهذا بخلاف ما كان يحدث، حيث يعاقب الصغار، الذين لا يجرؤون على النظر إلى الأعلى، والإشارة لمن يعطيهم الأوامر، ومن يعملون لصالحهم، فتظل مؤسساتنا تدور في حلقة مفرغة من الفساد، ويظل المستبصرون من المواطنين يصرخون في فضاء لا يحفظ الصدى، بلا طائل، مطالبين بحقوق مواطنيهم وهيبة وطنهم.
ومنذ شكلت النيابة العامة، لتكون جهة محايدة مستقلة لمحاسبة الجميع، عرفنا أن الأوان قد آن ليكون للقانون هيبة، ولتطمئن قلوب أصحاب الحقوق المسلوبة، وينام المواطن قرير العين، بأن هناك من يحفظ حقه، ويسمع مظلمته، ويخطط –بذكاء- لمستقبله، ويمهد لطريق التغيير للأفضل بحول الله، واضعا الوطن في موقعه الزمني الصحيح، وحيث يليق به تقنية، وصحة، وتعليما، وفي مواقع الخدمات كافة. لقد آن الأوان لتفعيل أجهزة الرقابة النائمة، وإطلاق أيديها المكفوفة، فلا مناصب تعيقها، ولا وسائط توقف عملها، هكذا ولدت اللجنة الوطنية العليا لمحاربة الفساد. ونتطلع اليوم بهذا القدر من الشفافية التي افتتحت بها لجنة محاربة الفساد عملها، إلى أن تفتح الملفات، ونطلع على ما خبأته أدراج الفساد، ونعرف المعايير التي يرجع إليها المواطن في تلمس مواطن الفساد، ليكون شريكا في عاصفة التغيير، فهو المستفيد الأول والأخير.