عبدالحق عزوزي

 شاركت منذ أيام في فعاليات مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي- العالم العربي، الذي انعقد بالعاصمة اليونانية أثينا بمشاركة رؤساء دول ووزراء وخبراء من الاتحاد الأوروبي والوطن العربي. وناقشنا في جلسات متنوعة ومتعددة مواضيع الساعة، ومن بينها تلك المتعلقة بأمن واستقرار المنطقة ومواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، وكيف يمكن أن تتضافر كل الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة التهديدات المحيطة بمنطقة الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط والمتمثلة في التطرف والإرهاب، والهجرة غير الشرعية ومشكلات اللاجئين والتجارة غير المشروعة. كما سعى المؤتمر أيضاً إلى تحقيق التواصل والتقارب بين الدول العربية والدول الأوروبية انطلاقاً من تفعيل مبدأ المسؤولية المشتركة متفاوتة الأعباء بين أعضاء المجتمع الدولي بهدف تضييق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الدول، وعلاج جذور ومسببات الأزمات الدولية ومصادر التهديد للاستقرار الإقليمي.

وقد شاركت في إحدى الجلستين الختاميتين، وكان المطلوب مني ومن بعض خبراء المفوضية والبرلمان الأوروبي، هو الحديث بناء على كل ما قيل في الجلسات السابقة، ووضع تصور دقيق لما يجب أن يكون عليه البناء الأوروبي- العربي المقبل. وكخبير في الاستراتيجية وأستاذ للعلاقات الدولية ابتعدت عن الأرقام والمسائل التقنية لأبوح بما يجب أن يقال في مثل هذه القمم ومنه مشكلة تلك الذهنيات والمسالك الثقافية- البينية السائدة في بعض الدول الغربية في علاقاتها بالضفة الجنوبية والقائمة على تصور: «صديق- عدو»، وهو ما لا يمكن أن تستسيغه العلاقات الثنائية أو متعددة الأبعاد في عالم اليوم. ومن يبقى متموقعاً في هذا الفكر، فلن يجيد قراءة النظام الدولي، لأننا قد وصلنا إلى مرحلة جديدة انتقل فيها النظام العالمي من السيادة إلى الارتباط والاعتماد المتبادل بين الدول، ومن قاعدة أولية القوة إلى قدرة الدول الضعيفة أو الصاعدة (اقتصادياً) على زعزعة النظام العالمي القديم، ومن الترابية إلى مسألة «الحراك» و«التحرك» الدائمين، ومن القراءة «الكلاوزفيتزية» للحرب المبنية على صراع الدول، إلى نوع من الصراع قائم على تفكك المجتمعات الداخلية، وبمعنى أدق فإننا أمام انهيار النظام «الويستفالي» الذي بني ابتداءً من سنة 1648.

كما استشهدت أيضاً بالتجربة الصينية الحالية التي أوضحت معالم نجاحها في الكثير من أبحاثي السابقة، فهذه الدولة، خلافاً للدول الأوروبية، فهمت القواعد الجديدة، ووعت الأحداث المتوالية التي وقعت بعد نهاية الحرب الباردة، ونجحت في التموقع الجيد في النظام العالمي الجديد، وأجادت عمليات المراوغة اللبقة وقواعد الحذر والرصانة دون تهييج ولا ضجيج ودون أية رغبة في الهيمنة على الآخر‏‭ ‬كيفما ‬كان ‬نوعه. ‬فالصين ‬استطاعت ‬فهم ‬العولمة ‬والارتماء ‬في ‬دورتها ‬بذكاء ‬ونجاح، ‬فهي ‬ليست ‬بدولة ‬ذات ‬طابع «‬دعوي» ‬تسعى ‬إلى ‬تصدير ‬نموذجها ‬التاريخي، ‬مثلما ‬فعلت ‬وتفعل ‬الدول ‬الغربية ‬التي تسعى ‬إلى ‬تصدير ‬النموذج ‬الغربي ‬زاعمة ‬أنه ‬لا ‬يمكن ‬تحقيق ‬أي ‬نجاح ‬دون ‬تبني ‬نموذجها ‬الفكري ‬والمجتمعي ‬والثقافي، ‬بل ‬وأيضاً ‬نموذجها ‬الاقتصادي ‬والسياسي الغربي، ‬بينما الصين ‬تمؤسس ‬لقاعدة ‬مفادها ‬أن ‬أي ‬نجاح ‬اقتصادي ‬تحققه ‬دولة ما، ‬لا ‬يعني ‬ضرورة ‬فشل ‬الآخر ‬أو ‬حمله ‬على ‬الفشل ‬في ‬إطار ‬ثنائية «صديق- عدو» أو «خاسر- رابح»، وإنما ‬في ‬إطار «‬رابح-رابح».

إن النظرة الفوقية لبعض الدول في علاقاتها مع الدول الأخرى لا يمكن أن تبقى قائمة ولا يمكن أن تؤتي أكلها في القرن الحادي والعشرين، وقد استحضرت في تدخلي رفض جل الدول الغربية دمج مواد التاريخ والثقافة ذات العلاقة بالصين والوطن العربي وأفريقيا في البرامج المدرسية للناشئة الغربيين، وهم قادة الغد. وهذا ما يجعل الدول الغربية لا تفهم جلياً، حسب تعبير منظر العلاقات الدولية الفرنسي برتراند بادي، أسس قراءة النظام الدولي، ولا قواعد التعايش الإنساني الحقيقي، فالصين والهند مثلاً تحتاجان لوحدهما إلى الآلاف من الصفحات الجادة لفهم نظامهما الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وهما تنجحان اليوم وباستمرار في التأثير على النظام العالمي بشكل مريح ودون صداع رأس وتؤثران في تسيير شؤون العالم، أي أنهما تؤثران بأقل تكلفة، فلا تتدخلان لا عسكرياً ولا مخابراتياً ولا مؤسساتياً كما تفعل أميركا مثلاً، ولكن تتدخلان بقوتهما الصناعية وبكفاءات أبنائهما وبعوامل نموهما الدائم، دون إشعار الآخر أياً كان بأنه موسوم بالدونية، بل إنه سيكون رابحاً في تعامله معها، وهذا ما يجب أن يطبق في العلاقات الأوروبية- العربية.