يوسف الكويليت

في عقود مضت، طغت السياسة العاطفية على التفكير العقلاني، فصار من مبدأ التفضيل والوجاهة، الانتماء، ولو شكلياً، إلى التنظيمات العربية السائدة ما بعد مرحلة الاستعمار -اشتراكية أو قومية-، وغلبت العفوية المنطق، بسبب حداثة التعليم والوعي، وانتشار الدعاية لمن كان يهيمن على سلطة الإعلام المسموع والمقروء، حتى أن استلهام الخبر وتصديقه يأتي من صوت العرب في مصر، أو ما تنشره صحافة لبنان وكان من العار، وأنت مواطن عربي تنتمي إلى دولة إمبريالية رجعية أن تتحدث عن مشاريع قامت بها، كفتح مدارس وجامعات وإنشاء طرق وغيرها، وإلاّ تعرضت لتهمة (الإمبريالي) حتى لو لم تملك ثمن فطورك من شابورة وكأس شاي، وهي إحدى التمايزات التي انتهت إلى حروب الأحزاب العربية مع بعضها وتقديم الضحايا وجبات لتطهير الدولة أو الحزب من عملاء الاستعمار!!

الفشل السياسي يقود إلى ولادة نموذج آخر يبلور أفكاره وتطلعاته، فكانت هزيمة 1967م الضربة الحادة في الوجدان العربي، وتبعاتها خلقت التساؤل، إلى أين نتجه ولماذا تبددت الآمال بالانتصار على إسرائيل؟

الحرب الأفغانية نسفت ما هو يقين إلى شك مطلق، وقد فجرت المكبوت عربياً وإسلامياً فكان لابد من إيجاد عدو يعيد هندسة الذهنية الجديدة، وملء الفراغ الذي تركه العروبيون المهزومون، فانطلق الصحويون يجيّشون الشارع الإسلامي بجهاد السوفييت كفرض عين على كل مسلم، فكان انقلاباً على الفكر والمفاهيم السائدة، وهذه المرة تعامدت الأفكار المختزنة عند الإخوان لتعلن تشكيلات طالبان والقاعدة من خلال تنظيم عنقودي استغل العاطفة الإسلامية التي لا تحتاج للاستثارة، فهي جاهزة لأي حدث، فجند الآلاف ومعهم الأموال، وصارت خطب الجمعة وحلقات المساجد والجمعيات الخيرية التي تسترت تحت هذا العنوان بجمع الملايين التي ذهبت لقادة التنظيم وغيرهم، حتى أن مواعظ وكرامات "عبدالله عزام" نشرت أساطير أن المجاهد مجرد أن يقذف بكومة حجارة على دبابة سوفيتية، تتحول إلى رماد، وأنه يشم رائحة المسك من قبور المجاهدين ويسمع أصوات شهاداتهم وتشهدهم، لكن المسألة تعدت الحقل الأفغاني وجبال "تورا بورا" إلى جهاد أعم حين أصبح المسلم الذي لا تتطابق أفكاره مع الحاضنة الأفغانية، كافر، فولد مصعب الزرقاوي بالعراق، وتلاه زعامات أخرى في بلدان عربية، وقد انحسر هذا الدور بسبب تقادم الزمن، وتولي إيران قيادة مرحلة أخرى لينشق لنا من العدم تنظيم "داعش" والذي حتى الآن لا يُعرف كيف خرج، وأين ذهب ضحاياه، وأسراه، وقواته المدمرة حتى بعد إعلان هزيمته وكأنه مخلوق خرافي جاء من بحر الظلمات بحراسة الساحرات التي أخفت أي ظل له، أو وجود..

مضمون الصور المتلاحقة من القومية، إلى الإسلاموية، كشفت الفراغ الذهني والعاطفي الذي عاناه المواطن العربي والإسلامي في تغييبه عن أي دور، فكان لابد من التفتيش عن الإبرة في كومة القش للبحث عن بديل موضوعي تعوضه حالة الفراغ وأزمته الذاتية، وكيف عاش ضحية الفكر الأحادي الذي حجب عنه سلطة العقل والنقد للسلطة والمجتمع بادعاء أن أي ثقافة جديدة وعاء للتغريب، فكانت النتيجة كشف تلك الأدوار التي هددت وجودنا وكان لابد من وقفة أخرى تعيدنا إلى توازننا الطبيعي، وإلاّ غرقنا في بحر الإرهاب..