نجيب يماني

من الطبيعي أن لا يحظى الاتفاق الذي وقّعته «فتح» مع رصيفتها «حماس» بنجاح يذكر، كما انتهى اجتماع القاهرة الأخير ببيان يتضمن كلاما عموميا دون أن ينهي حالة الانقسام العميقة التي استمرت أكثر من عشر سنوات، كانت استنزافا للقوى الفلسطينية وإضعافا لقوتها في مواجهة إسرائيل، هذا إذا كانت هناك أصلا مواجهة. لانقطاع أواصر الصلة بين «فتح» و«حماس» في مرتكز المرجعيات الفكرية، والمنطلقات الإستراتيجية بينهما، بخصوص فلسطين، ففي حين تنتهج «فتح» نهجا منطقيا، مستندا إلى حقائق على أرض الواقع، والتعامل معها دون القفز فوقها، نجد أن حركة «حماس» ما زالت متمترسة في مربع «الأحلام» والأمنيات الكواذب، وادعاء النضال ببطولات زائفة، وأسلحة مشبوهة، وقد بدأت الحرب الكلامية والردح الحماسي من قبل أبو زهرة ويحيى موسى لتعود القضية سيرتها الأولى.

ومع انقطاع هذه الصلة بين طرفي المعادلة في فلسطين، فإن أي اتفاق بينهما يظل هشا، وقابلاً للانفضاض ولعل الذاكرة تستدعي مثيلاً لهذه الاتفاقية ومآلاتها، مع أنها اتفاقيات جاءت بشكل أكثر موثوقية، وبرعاية أوسع وأكبر تأثيرا وفي بيت الله الحرام، ورغم ذلك كانت النهاية قطيعة بينهما، وعودة إلى ساحة التوتر والاتهامات المتبادلة، بلغة تخوينية، وتجريد من الوطنية متمسكة حماس بأجندتها الإخوانية وما تمليه إيران.

فهذه الاتفاقية، ولدت مشوّهة، إن لم تكن في الأساس ميتة إكلينيكيا.. فالمتابع لكلمة قائد حماس، يحيى السنوار، لا بد أن يقف على رصيف الاستغراب والدهشة من هذا «الغباء السياسي المزمن»، فأقل ما يمكن أن توصف به العبارات التي «دحرجها» «السنوار» إلى سامعيه أنها كانت «لغة محنطة»، و«هتافا» لا يجد له من مكان في أرض الواقع، وإن لم يعدم الصدى من خطابات سابقة ممجوجة فحلم «كنس إسرائيل» عاد إلى الواجهة، برغم أن «حماس» نفسها قد فاجأت العالم بقبول تشكيل الدولة الفلسطينية في حدود 67، فأي عقلية هذه التي تنسى بالصباح ما قالته في ليلها، وأي معنى لقول السنوار: «ولى الزمان الذي تعترف به حماس بإسرائيل، لا أحد لديه القدرة على النقاش في الاعتراف بإسرائيل؛ لأن هدفنا هو محوها من الخريطة»، وهي موجودة واقعا جاثما لا فكاك منه، بل إن البوصلة السياسية تتجه الآن إلى حل الدولتين بشكل حاسم، بما يضمن السلام والأمن لمنطقة طال عليها أمد الدماء الذكية المسفوحة على مذبح المطامح المشبوهة..

كما أن من مظاهر الموت المرافق لهذه الاتفاقية أن الطرف «الديماجوجي» فيها، وأعني «حماس» خفّ بها سريعا إلى «مرضعته» إيران، مطلعا إياها على ما جرى من اتفاق، وما تم من مواثيق، ولا يمكن أن ينظر إلى هذه الزيارة إلا على اعتبار أنها «عمل صبياني»، و«غباء سياسي»، فقد جاءت «تحديا» لإسرائيل وأمريكا؛ إذ تأتي غداة تصريحات لمبعوث الرئيس الأمريكي جايسن غرينبلات، طالب فيها الحركة المصنفة «إرهابية» بأن تقبل مبادئ اللجنة الرباعية، وأبرزها التزام الحكومة الفلسطينية بنبذ العنف والاعتراف بدولة إسرائيل وقبول الاتفاقات والالتزامات السابقة الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.. فالتعامل بردة الفعل يقتضي أن يكون قائما على تساوق القوتين المتضادتين، وإلا كان ذلك ضربا من الانتحار، ونتيجته في أحسن الأحوال، مزيد من التعنت الإسرائيلي، والتضييق على الشعب الفلسطيني الصابر، وتأخير لأفق الحل المنتظر.

وكانت «غباءً سياسيا»، فالالتجاء إلى إيران يعني الخروج بالقضية من محيطها العربي والإسلامي الذي يجب أن تكون فيه، فـ «حماس» بهذه الزيارة، تضع نفسها في خانة واحدة مع «عدو» يتربص بالمنطقة كلها، ويبث في مفاصلها من الفتن والصراعات ما هو مشهود وغير خافٍ، وأما حجة السلاح الذي يصل للحركة من إيران، فمثل هذا السلاح مبذول من أجل قضاياها، وليس من أجل قضايا فلسطين، وهي بهذا تجعل من «حماس» مخلب قط، و«أداة» ضغط في سير مباحثاتها مع الإدارة الأمريكية الحالية، وليس نصرة للقضية الفلسطينية كما يعتقد السذج والدهماء في «حماس»، فكل قطعة سلاح إيرانية لهذه الحركة عليها أن تدفع فاتورتها من تماسك اللحمة الداخلية، وسلامة البناء الاجتماعي، فهو سلاح مدفوع الثمن، إن أفق الحل للقضية الفلسطينية سيظل «غائما»، ومحروسا بأجندات مصطرعة، لا توافق بينها، تتلاقى الأيادي في مصافحات باردة، وتُكتب الاتفاقيات بأحبار مهزوزة، وترتفع الحناجر بهتافات ما عاد لها ذات الأثر «العصابي» قديما، ناهيك أن يكون لها أثر على وجه الأرض، فواقع الحال المرير يقول إن إسرائيل باتت «حقيقة»، وهي حقيقة مرة، ولكن يجب التعامل معها على هذا المنطق البراغماتي، والسعي لتقليل الخسائر، وصون الدماء، فلا خير في خطى تتجاوز مأمنها في المحيط العربي، لتبحث عن النصرة عند الفرس. وإن قادة حماس ما هم إلا دمى تحركهم المادة والمصالح من أبو مرزوق الذي وقف مع إيران وحزب الله ضد قرار الجامعة العربية بتصنيف حزب الله (إرهابي) إلى هنية ومشعل والسنوار، فمن «يقترف» مثل هذه الخطايا، غير خليق بأن «يحرر القدس» ويعيد الأقصى، ولو بحنجرته، فارحموا آذانا من هذا «الهتاف المشروخ»!