يوسف القعيد 

عندما جاءت الحملة الفرنسة لمصر 1798 كان نابليون حريصاً أن يصطحب معه أهم العلماء الفرنسيين لينشغلوا بتدوين موسوعة ـ ربما كانت الأولى فى تاريخ البشرية وقتها ـ عنوانها: وصف مصر. يقدمون فيها ما رأوه فى بر مصر من مظاهر الحياة، من حياة الناس اليومية. فعل نابليون هذا قبل الوصول لمصر. كان يعرف إلى أين يذهب؟ والشعب الذى يحاول أن يحتله؟ وقيمته الحضارية الكبري؟.

وصل ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع فى العالم للقاهرة، حدثت له رجفة. كتب فى مذكراته أنه وصل إلى عاصمة الدنيا وبستان العالم وحاضرة الكون. وإيوان البشرية.

ما كتبه ابن خلدون، كتب غيره وأكثر منه آخرون. فابن بطوطة أشهر رحالة عربى عندما وصل مصر توقف فى رحلته التى بدأت من شمال إفريقيا حتى الحجاز إلى الصين. حيث اعتبر أيامه التى عاشها فى مصر حجر الزاوية فى رحلاته جميعها.

كثيرون وقعوا فى غرام مصر. محبو مصر وعشاقها أصابهم داء محبة أهل مصر. أصحاب الحضارة الأولى فى التاريخ الإنساني. وما زالت شواهدها قائمة. الأهرامات، آثار طيبة العاصمة المصرية الأولي. إن ما يوجد من الآثار المصرية فى باطن الأرض أضعاف ما تم استخراجه. ليس الماضى ما نباهى به. لدينا ما فعلناه فى الحاضر. بناء السد العالي. وحفر قناة السويس. وحروبنا ضد الأعداء. ودفاعنا المقدس عن ترابنا الوطني. وثوراتنا الباسلة. ومحاولة قهر الصحراء ومواجهة التطرف والإرهاب. والتلاؤم مع ظروف الحياة الصعبة.

أدباء وكتّاب وفنانون تركوا بلادهم وجاءوا لمصر. وقضوا حياتهم بها رغم صعوبة الحياة. تصرفوا كأصحاب رسالات كبرى وكتبوا عن فترات حياتهم فى مصر ما يمكن أن يشكل أسفاراً كثيرة لا أبدد المساحة فى ذكر ما كتبوه، فهى معروفة ومنشورة وعلى الملأ قصة ورواية وشعراً ونصوصاً مسرحية. بل إن كاتبة الروايات البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي، أهم رواية لها عن جريمة تحدث فى النيل.

هل أتوقف أمام لورانس داريل الروائى العالمى الشهير الذى عاش فى الإسكندرية؟ وكتب رباعيته الشهيرة التى لم يُعرف ويشتهر له سواها، وعنوانها: الإسكندرية. وأحداثها تدور فى الإسكندرية. وأبطالها إما أجانب وقعوا فى غرام مصر وحبها وقرروا أن يقضوا ما بقى من أعمارهم فيها، أو مصريون تعاملوا معهم واحتكوا بهم. وكانت هناك تجارب مهمة لهم من خلال حياتهم المصرية.

مصر دولة دور، كما قال جمال حمدان. مصر دولة إقليمية عظمي. وليس فى كلمة عظمى أى تزيد. ولكونها دولة إقليمية عظمي. جمعت بين الحب المطلق والعداء الذى بلا حدود. الأسباب كثيرة، ولو توقفنا أمام من أحبوا مصر، رغم أن المحب لا يسأل لماذا يحب؟ فسنجد أنفسنا أمام مجلدات لا نهاية لها من كتاباتهم التى كتبوها وهم فى أحضان مصر. منذ فجر التاريخ كانت مصر مطمعاً للجميع. ما من مغامر عسكرى مهما يكن شأنه إلا واعتبر أن المجيء لمصر واحتلالها أهم ما فى الحياة بالنسبة له.

قبل التاريخ نجد أسطورة الاسكندر الأكبر، وأنا أقول أسطورة لأن من كثرة غرابة وقائعها يخيل إليَّ أحيانا أنها من صنع الشعراء. على الرغم من أن هناك الكثير من الأسانيد والإثباتات التى تؤكد وجود الإسكندر فى مصر ورحلته الشهيرة. ووصوله إلى واحة سيوة، ولو أن العمر امتد به، لكانت قصته مع مصر وقصة مصر معه من أهم فصول الهوى والغرام الذى يمكن أن يمسك بقلب إنسان ويقوده إلى مكان معين لا يفعل أى شيء سوى أن يعيش فيه.

وأذكر أن الدكتور سيد عويس له كتاب بديع صغير الحجم مهم القيمة، كتبه بعد الخامس من يونيو 1967، وكان عنوانه: محاولة فى فهم الشعور بالعداوة. ولأننى لا أذكر من الكتاب إلا المعنى العام. لا أحب أن أتكلم عنه. فربما يأتى كلامى بعيداً عما فى الكتاب.

قبل سنوات جاء إلى مصر الروائى البرازيلى العالمى باولو كويلو، وله رواية عن مصر. وكانت بينه وبين دار الهلال وقتها مشكلة، تحدث معى فيها. وهى أن الدار طبعت ترجمة بهاء طاهر لروايته دون أن تتعاقد معه وأن تسدد له حقوقه المالية. لكن الواقعة الجوهرية التى دفعتنى لتذكر باولو كويلو ورحلته المصرية، أن هذه الرواية باعت فى مصر وحدها خلال وجوده فى مصر الذى لم يتعد الأيام القليلة نصف مليون نسخة. وهو ما لم يحدث لتوزيع أى كتاب آخر حتى الآن.

كتب باولو كويلو:

- أنصت إلى تفسير الحلم، يجب أن تذهب إلى أهرامات مصر التى لم أسمع أحداً يحدثنى عنها، ولكن إذا كان من أراك إياها فى الحلم طفلاً فإنها قائمة بالفعل، وهناك ستعثر على الكنز الذى يجعلك ثرياً.

من باب التذكير فقط أقول إن بطل الرواية اسمه سانتياجو، وهو نفس اسم بطل رواية: العجوز والبحر لأرنست هيمنجواي. وأنه يتصور أن الحقيقة الكامنة فى الوجود موجودة فى كتاب، والكتاب فى قلب الهرم فى مصر، وتبدأ الرحلة بحثاً عن حقيقة الدنيا كلها. الموجودة فى مصر. وهى الرواية التى صنعت مجد باولو كويلو، على الرغم من أنه كاتب غزير الإنتاج يصدر كل عام رواية جديدة، إلا أن روايته عن مصر أهم نص كتبه فى حياته. ولو أن الرجل كان منصفاً أو زار مصر قبل أن يكتب روايته لسماها: ساحر مصر. وهو الاسم الذى صدرت به فى مصر.

يقول عالم المصريات جيمس هنرى بريستيد: لولا أهل مصر ما عرفت الإنسانية الضمير. والكتاب عنوانه: فجر الضمير، وقد ترجم قبل نصف قرن. ولو بحثت عن نسخة منه فلن تجدها.

لماذا ألجأ للآخرين؟ ها هو صلاح جاهين وشعره:

مصر السما الفزدقى وعصافير معدية/ والقلة مملية ع الشباك منديه/ والجد قاعد يقر فى الجرنال/ الكاتب المصرى ذاته مندمج فى مقال/ ومصر قدامه أكتر كلمة مقرية/ قريتها من قبل ما اكتب اسمى باديا/ ورسمتها فى الخيال على أبدع الأشكال/ ونزلت أيام صبايا طفت فى كل مجال/ زى المنادى وفؤادى يرتجف بجلال/ على اسم مصر.

لا مفر من التوقف الآن.