إبراهيم العريس 

طالما سمعنا خلال العقود الأخيرة تحسُّراً على مصير السينما العربية يتوقّع أنها في الطريق إلى الموت. وفي مرات كثيرة تم نعيُها، أو على الأقل توقُّع زوالها. غير أنها كانت دائماً تطلع من الرماد وأكثر قوة مما سبق. لا نتحدث هنا عن تيارات «بديلة» ولا عن انتفاضات مباغتة، ولا عما حدث في السينما العربية خلال العام المنقضي. ما نتحدث عنه هنا يتجاوز آنيّة الجردة السنوية للأفلام، ليرصد أموراً تتعلق بالفن السابع العربي، أو بجزء منه على الأقل، وبات يتجلى في السنوات الأخيرة.

فمن دخول سينمات عربية ما نسميه «زمن العالم»، إلى ازدياد حضور المرأة العربية صانعة للسينما، وصولاً إلى المناخات الأكثر جدية وطموحاً التي تَسِم ولو قلة من أفلام عربية من مصر أو المغرب، من تونس أو فلسطين، وحتى من قلب الجرح السوري أو العراقي أو من لبنان، ناهيك بمفاجآت خليجية مدهشة، مروراً بالفرز المتزايد (الحاسم؟!) للسينما العربية إجمالاً بين تجاري متهافت هو الغالب، وجيّد ومميّز، لا يزال يشكل أقلية في «زحام» ما ينتج. تسير السينما العربية إلى أمام متجاوزة مجدداً موتاً معلناً لم ينحسم أمره.

لعل الملاحظة الأولى التي يمكن المرء أن يخرج بها من هذا الكلام أن دخول السينما العربية «زمن العالم» ليس من موقع التعاطف السياسي هذه المرة، بل من موقع المتعة السينمائية، لكون السينما العربية الجادة باتت هي السينما «المستقلة» ذاتها، ولكون جزء كبير من هذه السينما «المستقلة»، وإن كان لا يزال تعريفه مستحيلاً، يرتبط بأفلام سينمائيات عربيات من بلدان عدة تصبّ أعمالهن في خانات إبداعية جديدة، بعيداً من القبضات المرفوعة والادعاءات الأيديولوجية الصارخة.

قد يكون مصطلح «السينما المستقلة» أكثر سهولة وتهافتاً مما يجب ومخادعاً، لكنه يصلح لوقفة تتوسط هذه المرحلة من عمر الفن السابع العربي، في انتظار وقفات قريبة أكثر إسهاباً وتحليلاً. ولا يفوت راصد الحياة الثقافية العربية في هذه المرحلة الدقيقة، أن يلاحظ أن السينما تكاد تكون صورة الإبداع العربية الوحيدة التي بدأت تصل العالم الخارجي، فينعكس نجاحها بالتالي على العالم الداخلي، من دون أن تسجل هنا ولا هناك، نجاحات فاقعة.

السينما العربية بمستقليها (من تامر السعيد إلى محمد حماد إلى زياد دويري ومحمد ملص وأصحاب الاندفاعة المغربية التجديدية) ونسائها المبدعات (من مي المصري وكوثر بن هنية إلى نادين لبكي ونجوم الغانم وهالة لطفي وهالة خليل...)، ومواضيعها الأكثر نباهة (من سجينة «3000 ليلة»، إلى شقيقتيْ «أخضر يابس»، وحسناء «على كف عفريت»، والمعزة المعشوقة في فيلم شريف البنداري، مروراً بالسجالات العنيفة التي أثارتها «إهانة» زياد الدويري، وقاهرة «آخر أيام المدينة»)، كل هذا يشكل منذ سنوات، متناً واضحاً يخرج بالسينما العربية من محطات ركاكة كانت توقفت عندها منذ توقفت التيارات الكبرى التي صنعت أمجاداً سينمائية عربية، ثم انتهت يأساً أو موتاً أو اهتراءً.

تبدو الصورة اليوم مختلفة بالتأكيد، إلى درجة يمكن معها ذلك الوعد المدهش في التعامل السعودي مع السينما بحياة جديدة ضمن إطار التغييرات التي يعايشها المجتمع السعودي اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، فنجد حين يكتمل، متناً سينمائياً سعودياً ملائماً الأزمانَ الجديدة، بل حتى وعياً سينمائياً قد يكون مبالغة القول إن لا سابق له، لكننا لن نبالغ حين ننسبه إلى صناعة مستقلة ونسائية واجتماعية وفنّية يصعب إيجاد ما يدانيها في أي ماض قريب.