عبدالله المدني 

في علاقة سيد الأبيض مع وزير خارجيته لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث للولايات المتحدة ذلك الغموض والتضارب والود المفقود الذي نراه اليوم متكرراً بين الرئيس ترامب ووزير خارجيته ريكس تريلسون. ولئن عزا البعض ذلك إلى شخصية ترامب المتوترة وجزء من هذا مرتبط، بطبيعة الحال،

بما يحيكه «الديمقراطيون» وشبكاتهم الإعلامية القوية من مؤامرات لإزاحته أو إجباره على الاستقالة، فإن تيلرسون ليس معفىً من المسؤولية تماماً، فالأخير القادم من عوالم النفط (كان قبل تعيينه وزيراً للخارجية يشغل منصب الرئيس التنفيذي الأعلى لشركة إكسون موبيل النفطية العملاقة، دون خبرة واسعة بأصول الدبلوماسية لم يترك فرصة دون استفزاز رئيسه بمواقف يعرف مسبقاً أنها لا تتوافق مع خطط ومزاج ترامب، ولا سيما في ما خص كيفية التعامل مع نظام بيونج يانج الطائش وزعيمه الموتور «كيم جونج أون»، ويمكن القول إن رأس الدبلوماسية الأميركية ذهب بعيداً لجهة التعامل مع الملف الكوري الشمالي دون التنسيق مع رئيسه مستفيداً من خاصية في النظام الأميركي هي أن وزير الخارجية مستقل في عمله عن رئيس البلاد، وليس ملزماً برفع تقارير عن جهوده وعمله لسيد البيت الأبيض. والشواهد على صحة ما نقول أكثر من أن تحصى.

وإذا كان أول هذه الشواهد هو توبيخ ترامب في تغريدة له من أن جهود وزيره الدبلوماسية مع بيونج يانج ليست سوى فخ ومضيعة للوقت، فإن آخر الشواهد هو قيام تيلرسون خلال اجتماع لمنتدى المجلس الأطلسي هذا الشهر بتقديم عرض مفاجئ لحكام كوريا الشمالية للدخول في مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة حول ترسانتهم وبرامجهم النووية والباليستية المهددة للأمن والاستقرار في شمال شرق آسيا. وهذا العرض، كما هو معروف، رفضته بيونج يانج بغرور مثلما رفضت عرضاً مماثلاً قدمه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية «جيفري فيلتمان» الأميركي الجنسية، بحجة أن «الوقت الراهن ليس مناسباً لإجراء مباحثات».

وكما في المرة الأولى انبرى عدد من مسؤولي الإدارة الأميركية لمقترح تيلرسون الجديد، معربين على لسان ترامب ضيق الرئيس وحرجه وعدم اتفاقه مع رؤى وزيره، قائلين إنه لا يمكن إجراء مفاوضات إلا بعد أن تحسّن كوريا الشمالية سلوكها وإنْ «على بيونج يانج أن تبدأ أولاً بنزع السلاح قبل أي حديث معها». وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ما أعلنته السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض «سارة هوكابي ساندرز» نصاً، وهو «لم تتغير مواقف الرئيس بشأن كوريا الشمالية لأنها تتصرف بطريقة عدوانية تجاه اليابان وكوريا الجنوبية والعالم بأسره بل تجاه الصين أيضاً».

قلنا إن الغموض يكتنف علاقة ترامب بوزيره، فالبعض يقول إن الأول لم يعد يطيق الثاني، مضيفين أن ترامب عازم في يناير المقبل على اختيار بديل لوزير خارجيته المرشح الأبرز هو المدير الحالي للاستخبارات المركزية مايك بومبيو خصوصاً بعدما نما إلى علم ترامب أن تيلرسون ينسق مع السيناتور «الجمهوري» بوب كوركر لتعزيز مكانته في مواجهة المتذمرين من سياساته ومواقفه.

أما البعض القليل الآخر فله رأي مخالف مفاده أن علاقة ترامب - تيلرسون جيدة فيما يتعلق بالملفات السياسية، خصوصاً مع نفي تيلرسون المتكرر للأنباء التي تتحدث عن قرب رحيله. ويذهب هؤلاء، من أمثال المتحدثة باسم الخارجية «هيذر نويت»، إلى حد القول إن تيلرسون هو خيار ترامب الأفضل لإدارة الخارجية، لأنه مفيد لجهة جعل العالم تائهاً حيال الخطط الأميركية، وأن السحابة التي تخيم على علاقاتهما من وقت إلى آخر تتعلق تحديداً بأشياء شخصية ليس إلا.

وهناك فريق ثالث يرى أن هكذا علاقة بين الرئيس ووزيره تنم عن فقدان الثقة، وترسل رسالة سلبية للقوى العالمية المنافسة مثل الصين وروسيا الاتحادية مفادها أن واشنطن مترددة، وليس لها خطاب سياسي موحد تجاه ملفات عدة مثل كوريا الشمالية واتفاق باريس المناخي ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، والموقف من النظام الإيراني. وكلها ملفات لوحظ فيها تباين بين ترامب ووزير خارجيته. ويرى هذا الفريق أيضاً أن المسؤولين الأجانب باتوا يتساءلون علناً إنْ كانت مواقف «تيلرسون» تعبر عن سياسات الإدارة الترامبية، أم أنها مواقف خاصة بالوزير كي يبنوا ردودهم عليها؟ ويمكن القول إن أكثر العواصم التي تقلقها هذه التباينات بين مواقف الرئيس ووزيره هي طوكيو وسيئول المعنيتان أكثر من أي جهة أخرى باستفزازات كوريا الشمالية لهما وللمجتمع الدولي. ومن هنا فإن رحيل تيلرسون، سواء جاء على وقع الأزمة الكورية أو أزمة أخرى، سيكون خبراً مفرحاً للعاصمتين، خصوصاً إذا حلت مكانه شخصية واضحة وحاسمة مثل «مايك بوميبو»، الذي لا يختلف خطابه عن ترامب.