وليد محمود عبدالناصر

تناول محللون عرب الكثير من تداعيات نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي أسفرت عن فوز إيمانويل ماكرون، المصنف باعتباره مرشح «الوسط»، وركز معظم هؤلاء على انعكاسات ذلك على أوضاع المواطنين الفرنسيين والمقيمين على أراضي فرنسا من العرب والمسلمين أو من الأجيال الثانية والثالثة ذات الأصول العربية والإسلامية، وكذلك على المواقف المتوقعة من الرئيس الفرنسي الجديد إزاء القضايا العربية أو التي تهم العرب في شكل مباشر على الساحتين الدولية والإقليمية. 

إلا أن إحدى دلالات تلك النتيجة ربما لم تحظ بعد بالاهتمام الذي تستحقه، وأعني هنا تحديداً أن فوز ماكرون يرتبط بإمكانات وفرص إحياء ما يطلق عليه «الطريق الثالث» في الأيديولوجية الفكرية والممارسة السياسية، خصوصاً في القارة الأوروبية.

بدأ إطلاق تعبير «الطريق الثالث» في السياسة الأوروبية في عقد الخمسينات من القرن العشرين، وكان المقصود به بدايةً الأحزاب والتيارات الديموقراطية الاجتماعية، والملقبة أحياناً أخرى الديموقراطية الاشتراكية، والتي ينضوي معظمها تحت لواء «الاشتراكية الدولية» في بلدان وسط وغرب أوروبا التي كانت تتبع النهج الليبرالي الديموقراطي والتعددية السياسية وتداول السلطة. 

ذلك باعتبار أن هذه الأحزاب والقوى اعتبرت نفسها بديلاً عن كل من الأحزاب الشيوعية في بلدانها، والتي كانت آنذاك، وربما لاحقاً باستثناء الحزب الشيوعي الإيطالي، منقادة في شكل كبير خلف قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، من جهة، وعن الأحزاب اليمينية، بجناحيها من المحافظين ثم الليبراليين الجدد على حد سواء، من جهة أخرى. 

وبينما واجهت تلك الأحزاب اتهامات من الأحزاب الشيوعية بأنها تسعى لتفتيت الجبهة المعادية للرأسمالية وللإمبريالية والحرب والمؤيدة للسلم في أوروبا في ذلك الوقت، فإنها واجهت بالمقابل اتهامات أخرى من الأحزاب الديموقراطية المسيحية، ثم لاحقاً من جانب الأحزاب الشعبوية، بأنها مجرد وسيلة يريد من خلالها اليسار الوصول إلى السلطة ليعصف بالديموقراطية التعددية ويقيم نظماً شمولية على النسق السوفياتي.

إلا أن المرحلة التالية، وقد تكون الأهم التي طرح فيها مفهوم «الطريق الثالث» في شكل صريح، فكانت على لسان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، في ظروف مغايرة لما سبق. فعندما قاد بلير حزب العمال للعودة إلى الحكم في أيار (مايو) 1997، ولمدة عقد كامل من الزمان، وهو الحزب الذي عادة ما يتم تصنيفه باعتباره يمثل يسار الوسط على الخريطة الفكرية والسياسية البريطانية، وهو صاحب الأصول الفكرية التي تعود إلى الاشتراكية الفابية (أو التعاونية)، فإنه طرح نفسه باعتباره «الطريق الثالث»، في وقت كان الاتحاد السوفياتي قد انهار وتفكك واختفى من الخريطة وانتهت الحرب الباردة في أوروبا بانهيار منظومة الدول الدائرة في فلكه في شرق أوروبا ووسطها. 

وكان بلير يهدف من وراء ذلك إلى جذب حزب العمال من موقعه في يسار المشهد السياسي البريطاني ليجعله يحتل وسط هذا المشهد، ومن ثم يكتسب قاعدة شعبية تمكنه ليس فقط من العودة إلى الحكم بعد طول غياب، بل والاستمرار فيه لسنوات طويلة.

وإن كان هذا الهدف قد تحقق، فإن ثمن ذلك كان ابتعاد حزب العمال عن قاعدة قوته التقليدية الممثلة في النقابات العمالية، ولكن على المدى الطويل واجه بلير أيضاً سلسلة من الاتهامات من مختلف الأطراف. 

فقيادات حزب العمال ورموزه، خلال سنوات حكمه وبعد رحيله عن السلطة وعن قيادة الحزب، كالت له الاتهامات بأنه أضرّ بمكانة الحزب لدى الفئات الاجتماعية الداعمة له تقليدياً وخسر جزءاً كبيراً من قاعدته الشعبية التاريخية من الفئات الاجتماعية الدنيا والوسطى. 

كما اتهموه بأنه قام بتشويش الهوية المعروفة للحزب ولم يعد واضحاً للعيان أين تكمن الانحيازات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للحزب. وعلى الجانب الآخر، فإن خصومه من صفوف اليمين، خصوصاً من جانب حزب المحافظين، اتهموه بخلط الأوراق وتعمد طمس الوقائع وإضفاء الضبابية على أفكاره وسياساته بحيث لم تعد الحدود واضحة بين اليمين واليسار في المشهد الفكري والسياسي البريطاني، وأنه بدأ يعصف بالمشهد السياسي التقليدي البريطاني وبمواقع الأحزاب الرئيسة في ذلك النظام.

وعلى جانب ثالث، فإن ربط بلير بين طرحه في شأن «الطريق الثالث» وبين الرئيس الأميركي القادم من الحزب الديموقراطي في ذلك الوقت بيل كلينتون جعل الكثيرين داخل بريطانيا وعلى صعيد أوروبا ككل ينظرون إليه باعتباره بنى طرحه فقط على أساس تحالفه مع كلينتون وبحثه عن أسس نظرية تجمع بينهما وتصبغ هذا التحالف بصبغة أيديولوجية بأي وسيلة. 

وهو الأمر الذي أثار شكوكاً في شأن مصداقية دفع بلير بأولوية انتماء بريطانيا الأوروبي ورفعه لواء هذا الانتماء من جهة وقلَّل كثيراً من تأثير ومصداقية طرح «الطريق الثالث» من جانب بلير على الصعيد الأوروبي، وتحديداً على الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في القارة وتوجهاتها وخياراتها الفكرية والسياسية من جهة أخرى.

وجاء نجاح مرشح الوسط إيمانويل ماكرون ليثير الجدل مجدداً حول إمكانات وفرص إحياء «الطريق الثالث»، وليقدم معالم طرح جديد مختلف نوعياً عما سبقه في هذا الشأن. ويأتي ذلك على خلفية اعتبارات شخصية وأخرى فكرية وثالثة سياسية لدى الرئيس الفرنسي الجديد. 

فهو جمع بين كونه أحد مستشاري مؤسسات «روتشيلد» الرأسمالية المالية الكبرى، وحقق البلايين من الأرباح لتلك المؤسسات على مدار سنوات عمله بها، وبين اختيار الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند له كأحد أبرز وأهم مستشاريه للشؤون الاقتصادية ثم منحه حقيبة وزارية اقتصادية في حكومته الاشتراكية، حتى استقال ماكرون من منصبه قبل عام تقريباً من خوضه سباق انتخابات الرئاسة الفرنسية. 

وكانت الحركة السياسية التي أسسها ماكرون بعد خروجه من الحكومة الاشتراكية، وهي حركة «إلى الأمام» الصغيرة التي تبنت منهجاً وسطياً، غير مؤثرة في المشهد السياسي الفرنسي حتى فوزه بالرئاسة.

ولكن يلاحظ أن ماكرون بفوزه حطم الصيغة السياسية التقليدية في فرنسا من خلال التنافس التقليدي بين مرشحي أحزاب كبيرة أو ائتلافات أحزاب على اليمين أو على اليسار على حد سواء على مقعد الرئاسة، كما أن الرئيس الجديد عزز من هذا التأثير عندما اختار إدوارد فيليب، أحد الرموز المعتدلة في حزب «الجمهوريين» الذي ينتمي إلى يمين الوسط، في منصب رئيس الوزراء، حيث إنه يسعى من جهة إلى توسيع قاعدته الشعبية في اتجاه اليمين، الى جانب ما ثقته بوجود دعم له في صفوف اليسار، خصوصاً في ضوء التهنئة الحارة التي تلقاها لمناسبة فوزه من الرئيس الاشتراكي المنتهية ولايته هولاند، وأيضاً لارتباطه السابق بالحزب الاشتراكي حتى وقت قريب. 

وقد اعتبر البعض أيضاً خطوة تكليف فيليب تشكيل الحكومة الجديدة محاولة رهان على تحقيق عملية تفكيك في صفوف اليمين الفرنسي، بحيث تنشأ قاعدة وسطية جديدة ما، أو «طريق ثالث» يجمع بين بعض فئات اليمين وبعض فئات اليسار يرتكز عليه الرئيس الجديد ماكرون في الحصول على الدعم وضمان غالبية برلمانية مواتية له في الانتخابات التشريعية الوشيكة والمقرر إجراء جولتيها في 11 و18 حزيران (يونيو) المقبل.

عمد ماكرون خلال حملته الانتخابية إلى الترويج إلى أنه يجمع بين الليبرالية والاشتراكية في آن واحد، كذلك عمد إلى تأكيد هويته الأوروبية بقوة، وهو ما تبدى خلال عزف نشيد الاتحاد الأوروبي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة وكذلك في الإسراع بالقيام بأول زيارة رسمية خارج فرنسا بعد توليه مقاليد الرئاسة لتكون إلى ألمانيا، شريك فرنسا التاريخي في البناء الأوروبي المشترك. 

وبالقدر نفسه حرص الرئيس الفرنسي الجديد على عدم الربط بين فوزه في الانتخابات وبين أي حدث خارجي، وتحديداً تجنب المقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية وانتخاباتها الرئاسية الأخيرة، والتي ظهرت نتيجة الانتخابات الفرنسية لتأتي عكس الاتجاه الذي بدأته نتائج الانتخابات الأميركية من جهة تفوق اليمين ذي التوجه الشعبوي، وكان هذا الحرص متسماً بالذكاء من جانب الرئيس ماكرون بحيث يحيد تأثيرات العامل الأميركي على المشهد الفرنسي، ومن ثم الأوروبي، خصوصاً أن الرئيس الأميركي سارع بتوجيه التهنئة له على حسابه الشخصي على «تويتر».

ستجيب تطورات الأيام والأسابيع والشهور المقبلة عما إذا كان ماكرون قادراً على تحقيق ما لم يحققه قادة الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية أو زعيم حزب العمال البريطاني الأسبق توني بلير في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، من بلورة خيار حقيقي وفعال وقابل للاستدامة في أوروبا يمكن أن نطلق عليه «الطريق الثالث».


* كاتب مصري