عثمان الخويطر

كثيرون لا يدركون أن "أرامكو" عبارة عن مجموعة موظفين لا يملكون منها إلا رواتبهم، من الرئيس إلى أدنى مرتبة في كيانها. ولا غرابة في ذلك، فقد كان محدثكم في أول عهده بالشركة من ضمن الذين لا يفهمون طبيعتها. أذكر بعد التحاقي بالشركة وسط ستينيات القرن الماضي كنت أحضر دورة تدريبية ضمن مجموعة من الموظفين، سعوديين وأمريكيين. فطرح المحاضر علينا سؤالا غريبا، وهو أحد نواب الرئيس.

حينها كانت "أرامكو" شركة أمريكية، أو بالأحرى كانت تملكها أربع شركات أمريكية. طلب من كل واحد منا أن يخمن نسبة أرباح الشركة السنوية من عملياتها. فاجتهد كل فرد بما يظن، وراوحت الإجابات بين 1000 في المائة إلى 20 في المائة. كانت الإجابات عشوائية ودون أي ضوابط أو تركيز. فلم يوافق الرجل على أي إجابة. وصدمنا بأن شركة أرامكو لا تربح ولا دولارا واحدا. فجميع الأرباح تذهب إلى مالكيها. والشيء نفسه ينطبق اليوم على «أرامكو السعودية». فهي لا تربح ريالا واحدا من عملياتها الداخلية والخارجية. فما يزيد من دخلها من البترول ومن مشاركاتها الاستثمارية على ميزانية أعمالها التي يتم إقرارها بموافقة مجلس الإدارة، يذهب إلى خزانة الدولة. ومجلس الإدارة يتكون من عدد قليل من إدارة الشركة ومجموعة من الوزراء ومن في حكمهم، بتعيين من الدولة، تحت رئاسة وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية. وإذا، منطقيا، ليس لأحد داخل الشركة أي مصلحة خاصة للتصرف بعكس ما يمليه عليه واجب الوظيفة والضمير والحس الوطني. ونحن نقترب الآن من منتصف عام 2018، وهو الزمن الذي تحدد لعرض نسبة 5 في المائة من الشركة للمشاركة العالمية، بدأت الأقلام تتحرش بـ"أرامكو" ظنا منهم أن بيع هذه النسبة الصغيرة هو من أجل تصحيح مسار هذه المؤسسة العملاقة.

وهذا الانطباع بطبيعة الحال غير دقيق. فخطة بيع نسبة معينة من شركة أرامكو السعودية جاءت ضمن فكرة و"رؤية 2030" التي تهدف في المقام الأول إلى تنويع مصادر الدخل في المملكة. والقصد من ذلك هو الحصول على قيمة متقدمة من بيع جزء من أصول الشركة. ومن ثم استثمار المبالغ واستخدام الدخل كرافد لدخل الميزانية العامة للدولة من البترول، وهو إجراء منطقي. ومن جانبنا كمواطنين، فإننا نأمل أن يكون الاستثمار، أو معظمه، محليا حتى يتم استيعاب أكبر عدد ممكن من العاملين الوطنيين لتعم الفائدة. ويتردد في وسائل الإعلام وصف طرح نسبة من عمليات أرامكو بالتخصيص، كما يحدث مع بعض المؤسسات المحلية. والشبه بين ذاك وذلك بعيد. فعادة يكون التخصيص محليّا والقصد منه إعطاء دفعة للقطاع الخاص. وعرض 5 في المائة من أصول شركة أرامكو في السوق العالمية لا يحمل الصفة نفسها. يقول أحد المغردين في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، "خصخصة أرامكو خطوة عظيمة في مسيرة الإصلاح الاقتصادي. وطرح الشركة بمنزلة إعلان الحرب على الفساد والهدر غير المبرر". فهو يفترض أن طرح نسبة من شركة أرامكو هو من أجل تصحيح الوضع في الشركة، حسب رؤيته وفهمه. وهو فهم خاطئ من المبدأ. "أرامكو" ليس فيها هدر للمال كما يظن كثيرون. فالشركة، لكونها تتعامل مع منتج بالغ الخطورة، لديها قوانين ونظم صارمة لضمان تنفيذ أعلى مقاييس السلامة والجودة في منشآتها. وهذا حتما يتطلب تكاليف أعلى من المعتاد، خارج نطاق أعمال الشركة.

ومن الأولى ألا نسميه هدرا للمال، بل هو لضمان جودة العمل. أما فيما يتعلق بتهمة انتشار الفساد في الشركة، فلا نظن أن أحدا لديه القدرة أو الجرأة ليثبت وجود فساد لم يكتشفه المسؤولون ويتخذوا بشأنه الإجراءات اللازمة والرادعة. وحتى من باب الذوق السليم، لا نرى ما يوجب لطخ جبين 50 ألف مواطن ومواطنة في الشركة بصفة الفساد وخيانة العهد، وهم يشهد الله من أشد المواطنين حبا للوطن وتفانيا في أداء الواجب. ثم يتحدثون عن عصر جديد من الشفافية في عمليات الشركة، نتيجة للمشاركة الخارجية. وهذه أيضا نقطة فيها كثير من المبالغة. فهناك نوعان من الشفافية، أحدهما يتعلق بالدخل والأمور المالية، والآخر بالنواحي الفنية. ما يخص شفافية الدخل فقد كان ولا يزال تحت رقابة الحكومة، وسيظل كذلك حتى بعد بيع نسبة الـ 5 في المائة. الحكومة وليس "أرامكو"، هي التي تتحكم بشفافية الدخل وطرق الصرف منه. أما النواحي الفنية فستظل الشركة تمارس نشاطها وتتحكم بمستوى شفافية المعلومات الخاصة بعملياتها كما كانت قبل العرض، ولها كامل الحق في الحفاظ على مصالحها. وهذا ما تمارسه جميع الشركات الكبرى في العالم، حماية لخصوصيتها. ويقول صاحب التعليق، "أرامكو اليوم عبارة عن جزيرة معزولة ليس عليها رقابة ولا تدقيق ولا متابعة وستصبح تحت المجهر غدا بإذن الله". هذا أيضا كلام من لا يعرف "أرامكو".

فكما ذكرنا آنفا، "أرامكو" هي مجموعة موظفين، هل يعقل أنهم يعملون دون هدى ولا توجيه ولا محاسبة؟ وأي مؤسسة على وجه الأرض تجدها تعمل داخل حدود جغرافية معزولة إلا من الذين يتعاملون معها. أما التدقيق والمتابعة ووضعها تحت المجهر فهي من مسؤولية الجهة التي تملكها. وحسب فهمي واطلاعي، فإن الشركة نفسها لا تمانع في ذلك لأنها ليس لديها ما تحرص على إخفائه. ولو لم تكن شركة أرامكو السعودية مؤسسة صناعية ناجحة بكل المقاييس لما وصلت إلى المستوى الحالي التي تتمتع به من الكفاءة المتميزة والتوسع الكبير في مجال صناعة الطاقة والبتروكيماويات. ولا نذيع سرا إذا قلنا إنها اليوم تضيف إلى كيانها مجالا جديدا طالما تمنيناه، لتصبح شركة رائدة في البحوث العلمية، بمشاركة فعالة من الأيدي الوطنية المؤهلة.