&عبدالله بشارة&&

&

من عاش خارج الكويت وسار في طرق العواصم الكبرى ودخل المراكز الثقافية فيها، فلا بد أن يتعرض لهوس من الأحلام بأن يرى شيئاً مشابهاً في الكويت، بلد التجديد الوديع، الذي عاش طوال حياته على عشق أهله وغيرتهم عليه، متجنباً خشونات المواجهة، وملتزماً نعومة الحديث ولطافة اللسان.


وكنت أتردد على مركز لنكولن الثقافي في نيويورك ومشتركاً ضمن قائمة صغار المتبرعين وأتجوَّل بين قاعاته التي تتكون من المبنى الرئيسي للباليه، ومبنى ثانٍ للمسرحيات الحديثة وهو الباليه الجديد الخالي من القيود الكلاسيكية، وآخر مدرسة واسعة للموسيقى وتعليم فنون الايقاعات، كان المركز عالماً صغيراً بمطاعمه ومقاهيه، ورواده الكثيرين، مع حدائق صغيرة وأنيقة.
وكثيراً ما كنت أروي لمن يزور نيويورك ضرورة زيارة هذا المحفل الجميل وقراءة معانيه.
ويدور الزمن ونشاهد مركزَين ثقافيَين في الكويت، وثالثاً في مسقط، ممثلاً في دار الأوبرا السلطانية، وأتردد على مسقط وأعشق ما هي عليه من حرص على جمالها ومواكبتها للعصر، كما أزور أوبرا جابر وفق إغراءات الفرق القادمة وجودتها.


المهم في هذا البيان تقديم تفسير لما ترمز له هذه المؤسسات الثقافية المبهرة، ولا جدال بأنها المدخل الأول لمسلك الحرية، فالفن لا يرقى من دونها ولا يتعاظم الخيال من دون حرية الإبداع الإنساني.
وقد سعى الاتحاد السوفيتي لتطويع الفنون العالمية – كما شهدناها في فرقة البولشوي المشهورة – لأغراض سياسية لخدمة المجتمع الذي يتحكم فيه السوفيت، وبوسائل نزع الحرية وتحويل الانسان إلى آليات تخدم أيديولوجية مستوحاة من جمهورية أفلاطون Utopia، التي لن تتحقق لأن ذاتية الإنسان هي الروح والعقل ومكوناته الحس والاستشعار فلا يتبدل على شكل آلة، ورغم تفوق الأوبريتات التمثيلية الروسية في مواهب الأفراد فإنها عانت من ضيقٍ فُرض عليها لكي لا تخرج عن إطار السياسة للدولة السوفيتية.


وفرحتنا بدار جابر ليس لاستحصال الترفيه مما تقدمه، وما تحرص عليه من تنويع، وإنما من قدرتها على التعرض للانغلاق ورفضه، مع الدفع نحو انطلاق الخيال الانساني لتلمس المواهب الكامنة في شخصيته، ومعنى ذلك التواجد في بقع التحدي وهي رفض ضوابط القيود ومواجهة فكر المحاصرة وكشف عيوب الانغلاق.
وإذا ألقينا نظرة تحليلية على الأوضاع الثقافية في الدول العربية فسنكشف حجم التراجع في ثقافتها الانسانية، وسنستغرب من حجم التشويه الذي تعرضت له الثقافة من قبل أنظمة الاستبداد التي طوعتها لتمجيد السلاطين من جيل الجنرالات حكام الانقلابات وأنصاف المتعلمين الذين تفزعُهم الحرية، فشيدوا مواقع ثقافة المدح والتهليل ومراكز النفاق والتغول.
كيف يتلاشى وهج الثقافة في مصر خلال السنوت العجاف الماضية وكيف يتجمد ذلك التراث الحضاري العظيم عند مسارح التطبيل والتضليل، ومع اختطاف الحرية في مصر وفي سوريا والعراق لم يبقَ إلا شعراء المدح ومؤلفو التهريج.


كان نجيب محفوظ يقاوم برواياته مثل «ثرثرة على النيل» و«اللص والكلاب» وغيرهما، وآخرون مثل يوسف إدريس في «الفرافير» ومسرحية «حلمك يا شيخ علام».
وأين تراث الشام المتوارث من عصر الرومان وما تلاه من فرس وعرب وفرنجة، وأين هي حصيلة نظام الأسد الثقافي، وغيره في العراق، حيث كان التلقيح الثقافي الفارسي العربي، الذي ولد عمالقة في الفكر والابتكار وفي الطب والكيمياء.
فمن يقرأ في الطبري 38 مجلداً في التاريخ يعتز بهذا التزاوج، ومن يقرأ للعالم الطبيب الفيلسوف أبوبكر الرازي، فسيأخذه العجب من سخاء الحرية في تخريج المواهب.
وأجد في الإمارات قراراً لاستعجال توفير مراكز الفكر والثقافة، فأعجبني كثيراً متحف أبوظبي في تنوعه في الآثار وفي اللوحات، مع توقعات بالتوسع تجاه شمولية مسارات الثقافة.
أتحدث عن إيمانٍ بدور الثقافة في صناعة الأمم وفي فعاليتها في تأسيس مؤسسات تترجم حيوية المجتمع الابداعية والحضارية، والأهم في قدرتها على نقل المحتوى الثقافي إلى كل ما يمكن من المواقع داخل الأسرة العالمية، فنرى جدوى وفوائد الاقتباس من فنون أوروبا وتدجينها لتتناسب مع ثقافات الآخرين وتتعايش معها ثم تستقر فيها.
نقرأ كيف اختار الخديوي اسماعيل الموسيقار العالمي الايطالي فيردي، ليؤلف أوبرا «عايدة» مستوحاة من حضارة مصرية أفريقية ينزلق فيها فرعون مصر تجاه جبروت العشق فينسى الخصم ويحب الفتاة ابنة الخصم ملك أثيوبيا.


مثلُ غيري شاهدت هذه الملحمة مرات عدة، والعبرة أن سطوة المشاعر الانسانية تتفوق على جدار التباعد وتهزم الطبقية المرفقة.
جاء هذا الابداع من ثمار الحرية وجاءت رسالة عايدة بوضوح بأن غريزة التوسع والأطماع والهيمنة هي نزعات باستطاعة الانسان هزيمتها إذا امتلك إرادة التغيير، وأن في حياة الانسان خيارات تدحض أنه أسير قدره، وقد جاء في حقائق القرآن «إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، تعبيراً عن متانة إرادة الانسان في التغيير.
في مركز الشيخ جابر للثقافة، تابعنا فنوناً من بلدان لغتها مختلفة وخلفيتها مغايرة وحضارتها غريبة علينا، ومع ذلك نستمتع بما تقول ونتفاعل مع حركاتها ونفهم رسالتها، فقضاياها إنسانية تتحكم في اللاعبين المشاعرُ نفسُها التي تتحكم فينا.
يذهب الأمير في بحيرة البجع، للصيد، فتظهر له حسناء من بين هذه الطيور ويضعف أمام جمالها فيلاحقها فتطير مع المجموعة الطائرة، ويزداد الوله والعشق، هي نوبات صاعقة لمشاعر تتواجد لدى كل انسان.
هذا خيال لكنه خيال من صقل الحريات ومن فضاء التنفس المسموح المحترم للانسان وحامي كرامته والحريص على آدميته.
هذه هي الدروس التي يقدمها مركز الشيخ جابر الثقافي، ورغم حداثة الموقع، فقد نجح في استحصال الاعجاب ليس فقط في هيكلته وإنما في غزارة معانيه وفي رسالته.

&