&لمجرد التفكير في الإجازات وقع رائع على حواسنا. يلهب خيالنا ويُدغدغ مشاعرنا منذ بداية الزمن تقريباً؛ لأن هذه هي الطبيعة التي جبلنا عليها كبشر. نميل بفطرتنا إلى الترحال والاستكشاف، ثم المزيد من الاستكشاف، بدليل أنه بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة وتوفرت وسائل النقل السريعة، بتنا نحلم بزيارة الفضاء وما وراءه. وليس ببعيد أن يُصبح هذا الحلم حقيقة على أيام الأحفاد.


الرومان

يشرح الكاتب والمؤرخ، توني بيروتيت، أن الرومان كانوا أول من تعاملوا مع السفر بمفهومه كإجازة ولزيارة بلدان أجنبية؛ نظراً لما كانوا يتمتعون به من فترات طويلة من السلام والرخاء. وكانت الإمبراطورية الرومانية أول حضارة تستمتع بمثل هذه الظروف البعيدة عن الصراعات؛ ما ساعدها على توفير البنية التحتية اللازمة لتنظيم مثل هذه العطلات.

وكان من شأن الجهود التي بذلها الجيش والأسطول في تأمين حدود الإمبراطورية وطرق النقل بها ضد غارات قطاع الطرق، تمكين المواطنين من السفر والتنقل دون الخروج من الولاية القضائية لروما. وأسهمت حرية التنقل هذه بدورها في ظهور النزل الصغيرة والمطاعم والمرشدين السياحيين، وكل ما يمكن للمسافر أن يحتاج إليه ليستمتع بسفره في ذلك الوقت.

علاوة على ذلك، كان لدى الرومان كتب إرشادات للسفر، ويعتبر كتاب «وصف اليونان» الذي وضعه الجغرافي باوسانياس نموذجاً معيارياً لما كانت عليه هذه الكتب. ويعتبر «وصف اليونان» عملاً كلاسيكياً من نوعه يسلط الضوء على كل شيء تقريباً بدءاً من جغرافية الأمكنة، وصولاً إلى الفنون والمعمار، مروراً بتفاصيل الشعائر والطقوس القديمة لكل منطقة. واللافت أن الكتاب يقع في 10 أجزاء كبيرة.

العصور المظلمة

مع سقوط الإمبراطورية الرومانية وبداية العصور الوسطى التي عرفت في الجزء الأكبر منها باسم «عصور الظلام»، اختفت العطلات بالصورة التي نعرفها اليوم، واقتصرت في الغالب على سببين. الأول العثور على أراضٍ جديدة للاستيلاء على خيراتها، والآخر شن غارات على أراضي أعداء. وكان الاستثناء الوحيد هي رحلات الحج. كما جاء في الأشهر «حكايات كانتربري» للشاعر الكبير جيفري تشوسر.

الحالة الثانية عندما تلُح الحاجة بالسفر فكان الالتحاق بقافلة تجارية.

ماركو بولو اسم يرتبط بالرحلة الملحمية التي خاضها صاحب الاسم واستغرقت 24 عاماً، وجرى توثيقها في كتاب «رحلات ماركو بولو» الذي تم وصف رحلاته فيها بشكل مثير للغاية، لكنه كشف لمعاصريه كيف كانت الصين تستخدم الورق عملةً، في حين كان الجزء الأكبر من أوروبا يستخدم العملات المعدنية.

أما العنصر المشترك بين هذه الأسفار المختلفة، فإنها استغرقت مدة طويلة للغاية. ومن دون توافر القدرة على الاستعانة بأي وسيلة تتجاوز حصاناً أو قارباً، كان السفر لبلاد أجنبية مهمة شاقة ومكلفة. ومثلما الحال مع غالبية مظاهر الرفاهية في تلك الحقبة، اقتصرت متعة السفر على أقلية قليلة للغاية.

عصر النهضة

خلال عصر النهضة، اقتصرت نشاطات السفر بصورة أساسية على التجارة والحروب. كان الأثرياء فقط لهم المقدرة على السفر بأمان، حيث كانت ترافقهم مجموعات من الجنود تتولى حمايتهم. أيضاً، انطوى السفر بحراً على مخاطر ليست بالقليلة بسبب القراصنة.

ومع ذلك، شهد عصر النهضة تنامياً لفكرة الاستكشاف. وبفضل التقدم في صناعة السفن، حلت سفن الغليون محل القوارب؛ الأمر الذي شجع على الخروج إلى البحار بدافع الفضول لاستكشاف مناطق لم يسمع بها أحد من العالم. انطلق مستكشفون مثل هنري هادسون، مُكتشف نهر هادسون، إلى البحار والمحيطات وصنعوا التاريخ. ولاحظ المستكشفون أنه يجري بالكثير من البلدان التي اكتشفوها استخدام الملح عملةً، ومن كلمة ملح بالإنجليزية «سولت» اشتقت كلمة راتب «سالاري». كانوا يعرفون أن تعطشهم للاستكشاف كان مغامرة تنطوي على مخاطر جمة، إلا أنه كان يحمل معه مكافآت كبرى.

القرن الثامن عشر

في القرن الـ18، أحيا فنانون وبعض من أبناء الطبقة الأرستقراطية التقليد الروماني المرتبط بإجراء جولة كبرى بأرجاء أوروبا. وفي واحدة من مثل هذه الجولات، وضعت الروائية الشهيرة ماري شيلي روايتها «فرانكنشتاين». ومن المعتقد أن التجارب التي خاضتها في ألمانيا وسويسرا أوحت لها بالكثير من أحداث القصة.

ورغم التقدم الذي تحقق على مدار أكثر عن 1500 عاماً، زاد السفر صعوبة، وبخاصة أن الطرق الرومانية القديمة تلاشت عبر مختلف أرجاء أوروبا، ما زاد من صعوبة وخطورة التنقل عبر البلاد. ثم جاءت الثورة الصناعية وما رافقها من ظهور القطار البخاري الذي مكّن الأفراد العاديين من التنقل إلى أماكن جديدة. قطع أول قطار بخاري أميركي وحمل اسم «توم ثمب» رحلته الأولى في بالتيمور عام 1830، وفي غضون سنوات، أصبح القطار البخاري وسيلة النقل الجماعي الأكثر شعبية. وقد مكّن ذلك الأفراد من السفر إلى الشواطئ بأعداد كبيرة لقضاء العطلات. وتحولت ولايات مثل فلوريدا وكاليفورنيا إلى مقاصد للراغبين في الاستمتاع بالعطلات الشاطئية من كل الطبقات بحلول عام 1915، كذلك تحولت نيويورك وفيلادلفيا إلى مقاصد سياحية شهيرة.

التوسع العالمي

بالنسبة للأثرياء، لم تقتصر العطلات على المناطق الساحلية بعد أن أتاحت لهم السفن البخارية الفرصة لزيارة قارات مختلفة.

وتكشف الصور التي جرى التقاطها خلال تلك الحقبة، عن أن السائحين الأثرياء كانوا يتسلقون أهرامات الجيزة في القاهرة (قبل تجريم هذا الأمر)، ويركبون الحمير الوحشية، ويحرصون على التقاط صور لأنفسهم مع أبناء قبائل أفريقية بدائية. ومن أجل من يسافرون إلى الخارج، كانت تجري طباعة كتب إرشادات للسفر تتضمن نصائح مفيدة. على سبيل المثال، في كتاب «نصائح للمسافرات» من تأليف إل. سي. ديفيدسون، ينصح فيه بخصوص نمط الملابس المناسبة لركوب الدراجات، وتقاليد تناول الشاي، وما إلى غير ذلك.


الثورة الصناعية

فتحت الثورة الصناعية الباب لوسائل جديدة للسفر. مثلاً، تولت «أوريانت إكسبريس» تنظيم رحلات للأفراد عبر منطقة أوراسيا، في الوقت الذي فتحت السفن البخارية الطريق أمام التنقل الجماعي بحراً. وبطبيعة الحال، استغرقت هذه الرحلات فترات طويلة مقارنة بالرحلات الجوية التي نستمتع بها اليوم. ومع ذلك لم يحجم عنها عشاق السفر والاكتشاف.

«تايتانيك» مثلاً قد نعتبرها اليوم كارثية، إلا أن خروجها أثار موجة هائلة من السعادة والتفاؤل، باعتبارها مؤشراً مهماً على التقدم الإنساني بوجه عام.

عام 1903، كان لجهود الأخوان رايت الرائدة بمجال الطيران فضل كبير في تغيير مفهوم السفر.

وجاء صعود الشركات الخاصة، بقيادة رجال أعمال رواد مثل هنري فورد في مطلع عشرينات القرن الماضي، ليتيح لأعداد أكبر من الأفراد مستوى أفضل من الرواتب يمكنهم من الاستمتاع بالسفر كإجازة. وبفضل الإنتاج الضخم، أصبحت أسعار السيارات في المتناول وأصبح بمقدور فئات مجتمعية كثيرة امتلاكها، لتُصبح وسيلة التنقل المفضلة للسفر أيضاً، ولا سيما أن التكلفة كانت أقل من رحلة على قطار بخاري. بالنسبة للمقيمين داخل الولايات المتحدة، تحولت كاليفورنيا إلى وجهة سياحية، وبخاصة في أوساط سكان الولايات الأكثر برودة من الباحثين عن الشمس.

فيما يخص السفر الجماعي، ظلت القطارات والسفن وسيلتي النقل الأكثر شعبية، وأدى ذلك إلى ارتفاع معدلات اسمرار البشرة بسبب التعرض لأشعة الشمس، وبمرور الوقت أصبح اللون البرونزي مؤشراً على علو المكانة ويثير إعجاب المحيطين وغبطتهم.


القرن الـ20

قرب نهاية عشرينات القرن الماضي، تقدمت صناعة النقل الجوي بوتيرة سريعة للغاية. ورغم أن الطائرات كانت تُستغل بصورة أساسية للشحن، فإنها بدأت تجذب الناس إليها كوسيلة سريعة. عام 1928، حملت طائرة ألمانية عرفت باسم «غراف زيبيلين» 20 راكباً و43 من أفراد الطاقم في أول رحلة طيران تجارية. في سبتمبر (أيلول) من العام التالي، انطلقت «غراف زيبيلين» في أول رحلة تجارية لها حول العالم.

وبوجه عام، يمكن القول إن مفهوم الاستمتاع بالعطلات من خلال السفر تطور وتبلور بوضوح خلال القرن الـ20، وأصبحت الشواطئ نقاط جذب كبيرة للجماهير، ليس من أجل الاستمتاع بهواء البحر فحسب، وإنما لعناصر الترفيه التي شيدت فيها. كما اكتسب التخييم شعبية كبيرة وبدأت نزل وفنادق صغيرة في الظهور لاستيعاب الأعداد المتزايدة من زوار المدينة. وبينما جعلت القطارات السفر أمراً سهلاً عبر مساحات واسعة من الأراضي، أتاحت الطائرات السفر إلى بلاد أجنبية.

مع الوقت، ظهرت عروض الرحلات إلى قارات مختلفة. وتنامت معدلات الإقبال السياحي على دول منطقة البحر المتوسط، مثل كورسيكا وبالما وساردينيا وكوستا برافا والريفييرا الفرنسية وإيطاليا. فالوجهات المتوسطية كانت مغرية بالشمس الساطعة والمشروبات زهيدة التكلفة والأطعمة الشهية. ومن مطاردة القرود في إندونيسيا إلى ركوب الخيل في الأرجنتين وزيارة شلالات إغوازو في البرازيل، توسعت آفاق الاستكشاف بشكل يرضي كل الأذواق. السؤال الآن هو ماذا سيكون عليه السفر في المستقبل. لأن هذه الرحلة التاريخية لمفهوم السفر أكدت أن ما يبدأ رفاهيةً أو حلماً يتحول بمرور الوقت إلى واقع متاح للجميع.