& حسن حنفي


قام الباحثون الأوروبيون برصد الدراسات العربية والإسلامية في جامعاتهم ومراكز أبحاثهم، لاسيما الجامعات الألمانية، على مدى العقود الماضية، وقد استندوا إلى المنهج التاريخي الأثير لدى المستشرقين، في تتبع نشأة الاستشراق الألماني وتطوره. وقد تجلى ذلك الجهد في كتاب يوهان فوك «الدراسات العربية في أوروبا من القرن الثاني عشر إلى مطلع القرن التاسع عشر» (1944). ثم تم مد المجال الزمني إلى مطلع القرن العشرين، فيما يمثل دراسة عملية صِرفاً تعادل دراسات الشك والريبة التي ألفها العرب. لقد ارتبط الاستشراق في بدايته بالحركة الصليبية، وكان المستشرقون يعتبرون أنفسهم مُعادين للإسلام والعروبة. وفي الكتاب المذكور أعلاه أمثلة على ذلك، خلافاً لما ذهب إليه طه حسين الذي يعتبر في كتابه «الأدب الجاهلي»، أن الإلمام بالاستشراق يمثل ضرورة معرفية. والحقيقة أن الاستشراق يقدم في بعض الأحيان معرفة تقوم على نظرة موضوعية نقدية تهتم بمسائل أكاديمية خالصة لا ترتبط كثيراً بالموضوعات الجارية، وإن كانت تدخل في نطاق حوار الحضارات على الإجمال. ويبين الاستشراق الألماني مدى الجدية في العلم والتمكن من أدواته اللغوية والمنهجية واتساع ميادين البحث وجمع المادة.. لذلك قدم عدة دراسات متنوعة في الزمان والمكان.


وتكثر الدراسات حول الاستشراق «القومي»، أي الاستشراق في كل دولة، مثل «الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني». فكل مجموعة من المستشرقين في دولة قد يعتنقون رؤية واحدة للإسلام، تاريخاً وحضارةً، وذلك طبقاً للعلاقات التاريخية بين بلادهم والإسلام. فرغم أن إسبانيا قد استعمرت أجزاء من المغرب العربي والصحراء، فإن الأندلس ما تزال باقية تعطي الوجه الآخر للإسلام الحضاري. وقد تطور الاستشراق الإسباني من خلفياته التاريخية ومن الماضي الإسلامي لإسبانيا، والانتقال من الهوية إلى الغيرية ومن بداياته متمثلة في الترجمة والجدال بين النصرانية والإسلام، كما هو واضح من رسالة عبد المسيح بن اسحق الكندي، ثم التنصير والدفاع عن النصرانية ومشاريع رامون لول ورامون مارتي، حتى انحسار الدراسات الإسلامية الإسبانية في القرن التاسع عشر ثم انبعاثها مجدداً وعودتها مع ميجيل أسين بلاثيوس، واكتشاف العلاقة بين التصوف الإسلامي والتصوف الإسباني، بل وإعادة اكتشاف إسبانيا ذاتها وتاريخها في الحقبة الأندلسية.
ولم يكن المستشرقون فقط من الغرب، بل ظهر أيضاً في الشرق مستشرقون في الهند والصين واليابان.. وصلوا قمة الشهرة، مثل بانيكار وايزوتسو وآخرين.. استعملوا هم أيضاً المنهج التاريخي، لكنهم تخلوا عن الأحكام المسبقة والمتحيزة في الاستشراق الغربي، نظراً لغياب علاقة الصراع بين الدارس والمدروس، والخروج عن نطاق المركزية الأوروبية. فهذا الاستشراق يستعمل التقسيم الجغرافي، ويبين التطور من النشأة إلى الازدهار، كما يبين بعض العناصر الاقتصادية والإدارية في تكوين المجتمعات والحضارات الأفريقية.


والدراسات العربية للاستشراق أدبيات ثانوية بالنسبة للاستشراق كأدبيات أولى. فهي دراسات على دراسات. إنها دراسات نقدية للاستشراق؛ للتحرر من أحكامه ونتائجه ورؤاه أكثر مما هي للتحرر من مناهجه وطرق بحثه. إنها التحول من هجوم الاستشراق إلى نقده ومدافعته. وقد قام بذلك باحثون عرب ومسلمون دفاعاً عن الإسلام وعن الثقافة العربية. إنها استشراق مضاد، دفاعاً عن الأصالة ضد التبعية، وعن الإبداع ضد النقل، وعن الوحي ضد التاريخ، وعن التسامح ضد التعصب، وعن الإسلام ضد الحرب، وعن العقلانية ضد الخرافة، وعن الواقع ضد الأسطورة، وعن الأممية ضد المذهبية والطائفية والعرقية..&
لكن حدث انتقال من الاستشراق التقليدي إلى الاستشراق الجديد الذي تحول إلى علوم إنسانية. لذلك كثيراً ما نسمع الآن عن «نهاية الاستشراق». لكن الدراسات، الإعلامية في معظمها والأكاديمية في أقلها، حول الأصولية الإسلامية والإسلام في أوروبا والعنف والإرهاب.. ولصق ذلك بالإسلام، في إطار «الإسلاموفوبيا»، تمثل استئنافاً للاستشراق بطريقة أخرى، الاستشراق القائم على التجربة والمعايشة وتغير الاهتمامات من التاريخ القديم إلى الحاضر الراهن.

&