& يوسف الديني

&

الانشقاقات داخل البيت الأصولي ظاهرة مثيرة للجدل، فكل الحركات المتطرفة والجماعات المتشددة في التاريخ الإسلامي وحتى اليوم، هي رهينة تحولات جذرية وعميقة، سواء على مستوى ولادة هذه التنظيمات كالخوارج قديماً و«السلفية الجهادية» حديثاً، أو حتى على مستوى المواقف من قضايا فكرية، وأبرزها الموقف من الكيانات السياسية الموازية. وعادة ما تسمى مثل هذه التحولات المرتبطة بـ«الانشقاق» الداخلي، بمفهوم قديم، عطفاً على ما حدث في العصر الأول من الإسلام، بمفهوم «الفتنة»، وهو مصطلح كثيف الدلالة ومحمل بسياقات متباينة؛ لكن يجملها الصهر والتمحيص بين أتباع الفكر الواحد، وصولاً إلى الحقيقة التي ترادف اليقين في تلك الجماعات الحديّة في مواقفها، ولذلك يمكن أن تكون نتائج تلك الانشقاقات دموية وكارثية، وليست على طريقة الانشقاقات في الجماعات السياسية الحديثة أو التيارات الثورية، التي تعني اختلاف طرائق العمل السياسي، أو الموقف من استدامة الحل السلمي من عدمه.
هذه المقدمة مهمة جداً لفهم ما يحدث اليوم في البيت الأصولي الذي يجمع تيارات متجانسة على مستوى الإسلام السياسي، من «الإخوان» و«السرورية»، وهما التياران المهيمنان على الحركية الأصولية والتيارات المنشقة عنهما، بتنويعات «السلفية الجهادية» و«القاعدة» وأخواتها؛ حيث تعيش هذه التيارات خلافات جوهرية اليوم، تخرج إلى السطح بفضل فضاء الإنترنت، الذي كما ساهم في ترويج التطرف والأصولية، ساهم أيضاً في إخراج «أسرار البيت» لغير العائلة، عبر البيانات والمواقف المعبر عنها في «تويتر» وفيديوهات «يوتيوب».
فتنة التكفير لشخصيات سياسية بارزة بعينها، سواء بالمعنى التراثي القديم أو مستمدة من «الافتتان» الذي لا يمكن أن تخطئه العين بشخصيات ملتبسة في الجدل الإسلاموي، بسبب شعاراتها الداعمة للإسلام السياسي؛ بل وعند تيارات أصولية إلى درجة التأييد والتحشيد لكل مواقفه، والتبرير لكل تصريحاته، حتى لو كانت ضد الأفكار التأسيسية للأصولية ذاتها، بحجة بلغت عند أحد كبار المنظرين الأصوليين في الخليج، نُسب إليه أن ما يفعله «الخليفة» هو جزء من مرحلة التدريج في التشريع التي كانت في الإسلام المكي، الذي كانت تجوز فيه ممارسات مخالفة لظاهر الدين، من أجل أنها مرحلة ضعف وليست مرحلة تمكين.
لكن هذا الافتتان والفتنة بالشخصيات السياسية الملتبسة، باتت محل انتقاد أخيراً من أحد أهم الشخصيات والمرجعيات المعاصرة للتطرف، والمنظر الأول بلا منازع لـ«السلفية الجهادية»، أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي) الذي أصدر بياناً في تكفير رئيس دولة يحظى بتأييد تيارات الإسلام السياسي في توقيت غريب. المقدسي الشخصية الكاريزمية الأهم في مرجعيات الجهاديين اليوم، والذي استطاع تجسير الهوة أولاً بين «التيارات الجهادية» وبين «التيار السروري» الذي انتمى له عشر سنوات، قبل أن يختلف مع مؤسسه محمد بن سرور ويستقيل من التنظيم، والذي كسر الحاجز بين التأصيل للأفكار التكفيرية وبين اختراق «السلفية التقليدية»، التي أحرجها في عدد من المفاهيم المتصلة بالولاء والبراء؛ بل جازف في سرقة تأثير مرجعياتها؛ بل والاستدلال بمرجعيات غير مألوفة في كل المدارس الجهادية العنفية، لانتمائها للفضاء الخليجي الذي يعرفه المقدسي جيداً بسبب نشأته منذ الطفولة في الكويت، وعلاقته الأهم بالقياديين الخليجيين في مرحلة «الجهاد الأفغاني» أكثر من الأفغان العرب؛ فضلاً عن الحالة الأردنية التي تعرفت عليه بعد عودته المتأخرة.
قطيعة المقدسي مثيرة للجدل والتساؤل؛ لأكثر من سبب؛ أهمها افتتان الإسلام السياسي والأصوليين حتى من التيارات العنفية بالسياسي الشعاراتي الذي يستخدم الأصوليين أحياناً، ويجازف ببراغماتية مخابراتية في التحكم بمنسوب العنف، عبر غض البصر عن حركات مرور المقاتلين، كما رأينا مع تنظيم «داعش». فهذه التيارات العنفية رغم تكفيرها مفهوم الديمقراطية باعتبارها صنماً يناقض مفهوم الحاكمية المركزي في العقل الأصولي، دافعت بشراسة بعد الانقلاب الفاشل على تلك الشخصية، وأنه انقلاب على الشرعية! وهو يأتي في توقيت لم يخرج فيه الخليفة المنتظر من العدم، فحزبه ومواقفه وشعاراته التي صيّرته رجل المرحلة المتوّج عند تلك التيارات، كانت معلومة لأبي محمد المقدسي؛ لكنه لم يبادر بهذا الموقف معلناً تكفيره، وأنه يجب على «التيارات الجهادية» عدم الانخداع به إلا اليوم، بعد أن دخلت بلاده على تغيير الخريطة التحالفية داخل مناطق التوتر في سوريا، وأعلنت تعاونها مع روسيا في أزمة إدلب، وهو ما يعني أن ثمة ترتيبات معينة للتخلص من مجموعات محددة من التيارات المقاتلة في سوريا على حساب أخرى من النهج والفكرة والمواقف ذاتها؛ لكنها فقط تعلن دفاعها عن شخصية بعينها، وأيضاً براءتها من «القاعدة»، وبالطبع من «داعش» الذي يعتبر الابن الضال الذي هجر البيت الأصولي (المقدسي له بيانات كثيرة في اعتبار الدواعش خوارج العصر والتحذير منهم).
موقف المقدسي متفهم جداً، فهو جزء من سياق الانشقاقات القديمة المبنية على تبدل الولاءات على الأرض، أو ما أسميه «نفي الشرعية المتبادل». قرر هذا السياسي المتلبس بعلاقة جدلية مع الأصولية في سياسته الخارجية، في لحظة معقدة، التخلص من تلك المجموعات في إدلب. تم تكفيره من قبل أهم الشخصيات المرجعية، وهو المقدسي الذي عادة ما يُنظر إليه بإعجاب لدى الراصدين للظاهرة العنفية و«التيارات الجهادية»، بسبب التأصيل العلمي الذي لديه، والمواقف المعتدلة تجاه المرجعيات الدينية التي تخالفه في الغلو التكفيري النظري، وإن لم يكن قد مارس القتال أو الانضمام المباشر لأي من «التيارات الجهادية» على الأرض.
الذي لا يمكن فهمه، هو ذلك الهجوم الشرس من قبل التيارات الأصولية على المقدسي في مواقع التواصل الاجتماعي؛ خصوصاً من أنصار الإسلام السياسي و«الإخوان» المفتونين بالدفاع عن شخص «خليفة الشعارات» ومواقفه، إلى الحد الذي باتت فيه تلك الهجمات ضد المقدسي بأساليب تذكرنا بكل أساليب النفي وكيل الاتهامات والإشاعات المغرضة؛ بل والكذب المختلق تجاه الخصوم، الذين كانوا عادة ما يقدمون على تلك المسالخ ومصاطب الإعدام المعنوي واللفظي من التيارات الليبرالية والعلمانية والتنويريين؛ لكن المقدسي اليوم قدم على نطع الإعدام الأصولي، ووصم بأنه مجرد عميل للمخابرات، وأوصاف أخرى تقودنا إلى إعادة النظر في فهم وقراءة سياق «الفتنة والافتتان»، وأنه لا يعني الانشقاق بناء على أسباب موضوعية؛ بل قد ينزلق إلى أشياء تتصل بالذرائعية الحزبية والتنافس غير الشريف، والبراغماتية التي يمكن أن تتوسل أساليب قذرة جداً. بينما اكتفت بعض «التيارات الجهادية»، ومنها «تحرير الشام» التي أرادت أن تمسك العصا من الوسط لمعرفتها بحجم المقدسي وتأثيره، وفي الوقت ذاته بتأثيرات هذه القطيعة على المعادلة على الأرض، بأن يقدم المقدسي إلى سوريا، وأن يغير مصادره التي استقى منها المعلومات حولها، وذلك بعد أن هاجم المقدسي في رسالة «هيئة تحرير الشام» وطالب بأن تكشف بوضوح عن سلامة نهجها؛ ورسوخ توحيدها ببراءتها من الطواغيت (الأنظمة السياسية) ومشروعاتهم ودعمهم وإملاءاتهم، كما حذر من أن هناك فئات واسعة من الشباب، تعهدوا بعدم القتال مع الهيئة في حال لم تكن واضحة معهم في مسألة «تحكيم الشريعة»، أو أن ينتقلوا لتنظيم «داعش»، أو يعتزلوا القتال، أو يعودوا لبلدانهم.
تكفير المرجعيات المتطرفة للأنظمة العربية والإسلامية شهير وشائع؛ لكن اللجوء إلى تكفير شخصية بعينها رغم الجدل الكبير داخل البيت الأصولي حول مسألة «تكفير المعيّن»، دلالة على انشقاق سياسي أكثر من كونه شرعياً أو دينياً، حتى بالمفاهيم الراديكالية التي تتبناها تلك التيارات، كما أن اتحادها على تقدير مرجعية بحجم المقدسي، رغم مواقفها السياسية الكثيرة وانقساماتها على الأرض، يعني أن الحرب على الإرهاب هي حرب أفكار بالدرجة الأولى، وليست حصار تنظيمات محددة سرعان ما تنبعث من رمادها كل مرة.