رضوان السيد

منذ اليوم الثاني للاضطراب في إيران، بدأت جهاتٌ عدة إقليمية ودولية تسألُ عن إمكانيات التغيير في السياسات الخارجية الإيرانية، تجاه المحيط وتجاه العالم.

وقد تبين بعد قرابة الأسبوعين على المظاهرات، والردود العنيفة من جانب أجهزة نظام ولاية الفقيه، أنّ النظامَ ليس مهدَّداً بالسقوط في الأمد القريب. 

لكنْ هناك تصدعٌ هائلٌ في عقائدياته وجمهوره ومستقبله. ومن المنتظر أن يتعاظم عليه الخطر الداخلي، لأنّ الأنظمة الديكتاتورية العادية لا تغيِّر سياساتها الداخلية والخارجية إذا حصل عليها تمردٌ شعبي، فكيف إذا كان النظام قائماً على اعتقادات دينية منذ ظهوره عام 1979. هؤلاء في نظر أنفسهم، وقسم من رعاياهم هم مبعوثو العناية الإلهية، والثأر والانتصار لآل البيت. وقد تجرعوا عسل السلطة وإغراءاتها، والتي تجعل دعواهم نوعاً من العصمة التي تخرج على حدود عقول البشر ومصالحهم. وإنه ليبلغ من اقتناعهم وادعائهم للحق في السلطة والسيطرة، أنهم يُقبلون على تغييرٍ ديني تحويلي في التشيع يقوم على نوعٍ من التعبد لآل البيت الأموات، لكي ينعكس تأييداً لورثتهم من آل البيت الأحياء، والقابعين في السلطة الإيرانية دون سواها. 

ماذا كان صدام حسين، ومعمر القذافي، وماذا هو بشار الأسد؟ حكامٌ عاديون وصلوا للسلطة بالانقلاب وبالوراثة، لكنهم كانوا مستعدين لتغيير الدين والجلد والسياسات كلها للبقاء في السلطة. ماذا بقي لبشار أو من بشار، بعد قتل قرابة المليون سوري، وتهجير الملايين، ودمار المدن والأرياف؟ لا شيء تقريباً. لكنه مستعدٌّ لمنح الديار وإزالة الناس، وبيع مستقبل سوريا للروس وللإيرانيين مقابل لقب الرئيس، بينما أجمع المراقبون على أنه كان بوسعه توفير ذلك كلّه على نفسه وعلى شعبه وعلى وطنه لو استجاب بالحد الأدنى لاحتجاجات الناس في درعا ودمشق وحمص عام 2011! فالأمر مع حكام نظام ولاية الفقيه الفظيع، وسط دعاواهم الأسطورية أعلى وأفظع وأصعب.

وإلى ذلك كانت هناك سياساتٌ نجحت بالداخل والخارج في نظر أركان النظام. بالداخل، وبعد ذهاب فورة الثورة، وولاءات الحرب العراقية - الإيرانية، والتراجع التدريجي لموارد الطاقة: سياسات اجتماعية ترقيعية، ومنها شعبويات محمود أحمدي نجاد بتوزيع تسعة ملايين سلّة غذائية شهرياً على منْ هم تحت خطّ الفقر، أي قرابة الثلاثين مليون نسمة، أو أكثر من ثلث الشعب الإيراني. أما الولائيات الأُخرى فتتمثل في الجهاز الأمني والعسكري والإداري الضخم جداً، والذي جمع من حوله ملايين من المستفيدين بشكل مباشر، مما دفع تجار البازار وفئات أخرى للشكوى من أن الحرس الثوري ينافسهم في أعمالهم ومصالحهم ويستولي عليها بتغطية من الولي الفقيه، وبالفساد المستشري.

أما الجانب الخارجي من تلك السياسات فيتمثل في استخدام الميليشيات الشيعية اللبنانية أولاً، ثم العراقية، ثم اليمنية، ثم الأفغانية والباكستانية. ومعها من قبل ومن بعد وفي السياق نفسه تقريباً منظمة الجهاد الإسلامي، وحماس. لقد جرى استخدام هذه الميليشيات بإشراف الحرس الثوري وقيادته في بعضها لمدّ النفوذ من جهة، وللمساومة مع الولايات المتحدة، والجهات الإقليمية والدولية الأُخرى. ولا ينبغي أن ننسى أنّ الرئيس روحاني، وعند عقد الاتفاق حول النووي عام 2015 وضع «حزب الله» ضمن الذين يستحقون الشكر على ما أنجزته إيران بهذا الاتفاق، في قوتها ونفوذها الإقليمي والدولي. 

وإذا كانت إيران تجادل حتى الآن في مقادير دعمها لميليشيات الحوثي؛ فإنها تفخر بهذه الميليشيات في سوريا منذ عام 2012، حيث تدخل الحزب أولاً بالآلاف من مقاتليه، ثم تدخلت الميليشيات الأخرى العراقية والأفغانية والباكستانية بعشرات الأُولوف. وما أنفق الإيرانيون وينفقون على هذه الميليشيات وحسْب؛ بل إنّ الحرس الثوري أفاد إفادات كبرى في الإثراء من ذاك الإنفاق الخارجي والذي لا حسابَ عليه. وفي حملتي روحاني الانتخابيتين كانت هناك شكوى مُرَّة من الإفادة الداخلية للحرس الثوري، دونما ذكْرٍ للإفادة الخارجية، لأنها أوامر الولي الفقيه المباشِرة. لكنّ روحاني، ومنذ عدة أشهر دأب على التمدح بإنجازات الحرس الثوري، وهو الأمر الذي دفع المتظاهرين لاعتباره مسؤولاً إلى جانب الولي الفقيه، عن الأوضاع التي وصلوا إليها في أعمالهم وفي عيشهم. ومنذ اليوم الأول قال المتظاهرون ما معناه: لا غزة ولا سوريا ولا لبنان، نريد الاهتمام بإيران!

لا يستطيع النظام الإيراني الذي ينصُّ دستوره على تصدير الثورة، أن يعتبر ذلك سياسات خارجية يمكن تغييرها تبعاً للاحتياجات الداخلية كما تفعل الأنظمة السياسية العادية. إنها إذا شئنا التعبير عن ذلك بدقة هي رسالة النظام أو جوهره وليس شأن الأنظمة الديكتاتورية فقط؛ بل شأن الأنظمة العقائدية أيضاً، وهي الخصوصية البارزة لنظام ولاية الفقيه. 

إنّ البراغماتية ممكنة مع الولايات المتحدة ومع روسيا والصين والهند وأوروبا وتركيا، لكنها غير ممكنة مع العرب بسبب الأحقاد التاريخية من جانب نظام طائفي غارق في التاريخ، وفي التعصب الاعتقادي. ولذلك كانت هناك ثلاثة أساليب مع العرب انتهجها النظام الإيراني منذ التسعينات من القرن الماضي: المهادنة إذا وفّر ذلك إمكانيات الاختراق (السلمي) كما حصل مع الكويت ومع السودان وحتى مع الجزائر والمغرب - أو استلحاق الأنظمة سياسياً واجتماعياً ودينياً. 

وهو ما حدث من طريق الميليشيات وغير الميليشيات الشيعية مع لبنان وسوريا والعراق - أو تكوين الميليشيات سراً وعلناً لزعزعة الاستقرار، وجذب فئات يمكن استخدامها عندما تسنح الظروف مثلما حدث في غزة بعد استيلاء حماس عليها، والبحرين، ويحدث من سنوات باليمن. وفي كل حالة من هذه الحالات الثلاث ما غاب عنوان القدس وفلسطين وأميركا. وفي الثمانينات وحتى أوساط التسعينات كانوا يعيِّرون الدول والمعارضين لهم بالداخل الإيراني بالروس أيضاً!

عندما نشبت المظاهرات بإيران أخيراً اتصل بي مسؤول لبناني من أنصار إيران ليقلّل من شأن المتظاهرين، ويتهمهم بالعمالة لأميركا وإسرائيل والسعودية. وقلتُ له: هذا اتهامٌ تتداولُهُ وسائلُ إعلامكم، وأنا أتوقّع ظهور نصر الله اليوم أو غداً ليقول إنه ماضٍ لشنّ حربٍ من أجل القدس وتحرير فلسطين، لصرف الأنظار عما يحدث بالداخل الإيراني! فاستبعد ذلك، وعرض أن يُراهنني على أساس أنه صار أُسلوباً مفضوحاً، والحزب لا يريد الحرب إلاّ إذا هاجمه العدو، وعرض أن يراهنني على ذلك. لكن في اليوم الخامس أو السادس أجرى نصر الله مقابلة مع «الميادين» بالفعل وهدَّد بالحرب الكبرى التي تعمُّ المنطقة، والتي يستعد لها الحزب ليل نهار! فقلت للرجل: لو كنتُ راهنتُك لخسرتَ الرهان! فجادل بأنّ الحرب ممكنة وآتية بين إيران وإسرائيل باعتبارها بين أمارات ملاحم القيامة وظهور المهدي!

وإذا لاحظنا فإنه فيما عدا الرئيس ترمب، ما كان هناك رهانٌ أو دعمٌ لمتظاهري الشعب الإيراني في أوروبا والجهات الأُخرى، لأنهم استناموا إلى براغماتية الملالي التي يستخدمونها معهم، بينما يستخدمون عقائدياتهم وأساطيرهم معنا!

وما أزال أزعم أنّ التغيير في إيران ممكنٌ بل وهو قادم، لكنه لن يكون إلاّ داخلياً، ومن أوساط الشعب، والقوميات والعرقيات الأخرى. أما عقائدياته في السياسة الخارجية فستتصدع إذا انهزم الحوثيون في اليمن، وستسقط نهائياً على وقع تطورات السنتين المقبلتين في العراق وسوريا.