حامد الحمود

منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وإيران الثورية بسياستها كدولة، وبأيديولوجيتها الدينية لا تؤثر فقط في العالم العربي، وإنما تصنع الأحداث فيه. فإيران الثورية كانت وراء نشوب حرب بينها وبين العراق استمرت ثماني سنين. ونتائجها كانت مدمرة على إيران والعراق والكويت. فما كان غزو العراق للكويت إلا نتيجة غير مباشرة للحرب العراقية الإيرانية. لذا فإننا نحن الساحل العربي للخليج، والعرب عمومًا، نراقب بتمعن أنباء التظاهرات والاعتقالات وأثرها النهائي على استقرار إيران ومستقبلها. فإلى حد كبير، أصبح مستقبل العراق وسوريا ولبنان واليمن مرتبطاً بمستقبل إيران.
وأصبح جليًا أن هذه الأحداث الأخيرة في إيران، هي مختلفة عما حدث في عام 2009، التي قادها إصلاحيان هما: مير حسين موسوي ومهدي كروبي، اللذان اعتمدا على قاعدة من الطبقة الوسطى في طهران مؤمنة بثورة الخميني، لكنها رغبت في تجديدها. أما أسباب اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات الأخيرة فهي غير واضحة. لكن عفويتها واتساعها في مدن عديدة بعيدة عن طهران، ومشاركة قوميات مختلفة داخل إيران، تظهر أن الأحوال الاقتصادية المتردية، وانتشار البطالة بين الشباب، كانا سببًا رئيسيًا في اندلاعها. وهناك إشارات قوية على أن الشعب الإيراني قد ضجر من صرف مليارات الدولارات على حروب إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الإيراني من توافر فرص العمل، ومن ايجاد قُوْته أحيانًا أخرى.
هذا وهناك أكثر من رأي حول أسباب اندلاع هذه التظاهرات في هذا الوقت بالذات. فمنهم من عزا ذلك إلى إفلاس شركات عقارية ومالية كبرى في مشهد، وهناك من يرى أن الرئيس روحاني نفسه يتعاطف مع مطالب المتظاهرين. لذا كانت تصريحاته محسوبة بدقة، فتارة ينتقدهم، وأخرى يدعوهم ضمنيا إلى التظاهر بصورة سلمية، وهو بالتأكيد لم يخوِّنهم كما خونهم آخرون، متهمينهم بالعمل لحساب أميركا وإسرائيل.. إلخ، وهناك من رأى أن الرئيس روحاني نفسه كان وراء تسريب معلومات عن ميزانية الدولة، أظهرت أن مليارات الدولارات قد تم تخصيصها لدعم نشاطات إيران الثورية في سوريا ولبنان. هذا في الوقت الذي وصل فيه معدل البطالة بين الشباب الى ما يقارب %40. ويرى توماس إردبرينك ــ مراسل «نيويورك تايمز» في طهران في عدد الصحيفة الصادر بتاريخ 2 ــ 1 ــ 2018، أن من أسباب التظاهرات كان تسريبات عن الميزانية، أظهرت ارتفاع المبالغ المخصصة لمؤسسات دينية، وأخرى مخصصة لتغطية أنشطة الحرس الثوري في العراق وسوريا. وأن هذه التسريبات عن الميزانية وصلت إلى 40 مليون إيراني عن طريق تطبيق تليغرام، الذي يعتبر من وسائل التواصل الاجتماعي المفضلة لدى الإيرانيين.
وهناك غضب لدى الإيرانيين من الحياة الباذخة التي يعيشها بعض رجال الدين الإيرانيين، وحتى من ابتعاث شخصيات دينية مهمة، مثل رئيس مجلس تخصيص النظام إلى ألمانيا للعلاج، في الوقت الذي لا يتوافر العلاج لكثير من جموع الشعب الإيراني. لكن يبقى أن هذه التظاهرات الأخيرة، وإن كانت قد أسقطت هيمنة النظام بعفويتها وشجاعة المشاركين فيها، وبخلعها قداسة المرشد بإزالة صوره، فإنها تبقى محدودة التأثير في استقرار النظام. فالإيرانيون بشكل عام يدركون صعوبة إسقاط هذا النظام، الذي تمرس بالحكم وبالقبضة الحديدية وبالحروب. فالإيرانيون راضون بالتغيير حتى من خلال النظام نفسه. فإضعاف شخص المرشد وتقوية دور روحاني يعتبر أحد المسارات التي سيلجأ إليها هذا الشعب لنيل مزيد من الحريات. فقد أُرهق هذا الشعب وعانى الكثير من اضطهاد المؤسسة الدينية، التي مازالت فارضة سلوكًا يمقته الشعب الإيراني ويصبو إلى التحرر منه.
ونحن في غرب هذا البلد المميز أثره في حاضرنا وماضينا، ننظر بتفاؤل إلى قدرة الشعب الإيراني على إحداث التغيير، الذي سيحرره ويحررنا من تدخلات نظامه في سوريا والعراق ولبنان. وبدورنا، فإنه من مسؤولياتنا الإخلاقية أن نسهم بهزيمة سياسة النظام على الأراضي العربية، التي اما دعمت فيها حكومات طائفية، وإما نظامًا جمع الدكتاتورية والطائفية والفساد. وأرى أن أفضل الوسائل لتقويض وهزيمة النفوذ الإيراني في منطقتنا العربية يأتي من خلال الانفتاح الاقتصادي على العراق والاستثمار فيه. أما في سوريا فهزيمة سياسة النظام الإيراني تكون بالتواصل الدائم مع جميع مكونات الشعب السوري لتفتيت آخر حجر يستند إليه نظام الأسد.
وعلينا أن نتذكر دائمًا أن النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان سيبقى دائمًا سطحيًا، لعدم قدرته على أن يتحول إلى مؤثر ثقافي. فاللغة الفارسية وإن كانت لغة الثقافة في عصور إسلامية غابرة، فإن اللغة العربية هي الوطن المشكل للثقافة والأحاسيس المشتركة، فحتى غيبة بعض العراقيين واللبنانيين وانبهارهم بالنموذج الإيراني ما هي إلا غيبة مؤقتة.