عبيد الحلاف

يجب أن تقدم مساعدات للمؤسسات الإعلامية، لتحفيزها وانتشالها من أزماتها المالية الخانقة التي تهدد مستقبل هذه الصناعة، وتكون هذه المساعدات مشروطة بخطط تطوير وتحول رقمي

صحف عالمية توقفت نسختها الورقية، لكنها ما زالت تصدر في نسختها الإلكترونية وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك لم تتأثر، بل زاد متابعوها ومشتركوها في نسخها الإلكترونية، ومن هذه الصحف، الإندبندنت والجارديان البريطانيتان، والأوبزرفر، والتايم الأميركية وغيرهما الكثير.
هذه الصحف اقتنعت بأن الخبر لم يعد انفرادا كما كان قبل 20 عاما، وكذلك عملت على دراسات مسحية واستطلاعات لما يحتاجه الجيل القادم، فاستبقت الحلول بوضع خططها الإستراتيجية للتحول الرقمي، وعدم انتظار الوفاة السريرية أو شيخوخة النسخة الورقية.
ولكن للأسف تجربة بعض الصحف العربية والخليجية في النسخ الإلكترونية فشلت، لأسباب كثيرة ومنها:
1. قاعدتها الجماهيرية التي كانت تراهن عليها، ليست إلا قراء محدودين كشفهم التحول الإلكتروني.
2. الفئة العمرية، الإعلام الإلكتروني له متابعون يحتاجون لفهم متطلباتهم ومعرفة توجههم، فما ينشر على الورقي ليس بالضرورة يصلح للنشر على الإلكتروني.
3. المادة المنشورة لتلك الصحف ليس فيها ما يشبع رغبة القارئ الإلكتروني، ليست خاصة كي ينتظرها.
4. هذه الخطوة التي فعلتها الصحف العربية والخليجية لم تبن على دراسة أو خطة أو استطلاع، بل قرار مجلس إدارة.
وأسباب أخرى يعرفها ذوو الاختصاص في الإعلام.
وفي كتابه «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» الصادر 2011، تنبأ الكاتب الفرنسي برنار بوليه بأحد أكثر الأفكار جدلًا حول احتمالية اختفاء فن التحقيق الصحفي، وبتحولات جذرية تصيب الصحف المطبوعة في مقتل، منها تحول المعلنين عنها، وانخفاض إقبال القراء عليها، ويعتبر مؤلف الكتاب أن نمط صناعة ونشر الإعلام، كما عرفناه منذ قرابة قرنين، وصل إلى نقطة تحول، ولم يعد الأمر يتعلق بإجراء إصلاح من أجل المواصلة كما في السابق، لكنه يتعلق بإعادة اختراع.
وفي هذا السياق يضعك برنار بوليه أمام مشكلة جدية لا تنساق أمام أوهام من مثل «أن عالما بدون صحف لا يمكن تخيله»، مقولة لا تعفي من تقدير حجم المشكلة، دون تعلل بالأوهام، من أجل التمكن من مواجهتها وإيجاد مخارج جديدة. 
وهذا يضعنا أمام خيارات صعبة ومؤلمة ولكنها ستنجح في حال توافرت لها الظروف المساعدة، فمن وجهة نظري كممارس للإعلام سيكون الحل ذا شقين أساسيين، الأول يتعلق بالجهة المنظمة لهذه الصناعة ممثلة في وزارة الإعلام، والشق الآخر يتعلق بالمؤسسات الإعلامية، وهيئة الصحفيين السعودية.
أما الشق الذي يتعلق بوزارة الإعلام فيكون على شكل منظم وداعم للمشاريع الإعلامية، وألخصه في نقاط:
1. المؤسسات الإعلامية التي لديها مقرات ومطبوعات ونشاط إعلامي كبير، وكذلك منظومة من المراسلين والمحررين داخليا وخارجيا، وتصل ميزانية رواتبها الشهرية مبالغ تفوق المليون ونصف المليون شهريا، تعاني من صحافة وحسابات النشل الإلكتروني، ولا بد للوزارة من وضع حد لهذا، بسن قوانين صارمة فيما يخص حقوق النشر.
2. القارئ يعتقد أن المواقع الإلكترونية مميزة، وهذا للأسف انطباع في جزئيات كثيرة منه غير دقيق، لأن الصحافة الإلكترونية في السعودية، وكذلك الحسابات الإخبارية في أفضل تقاريرها تعتمد على ما ينشر في الصحف الورقية، والبقية إما بيانات موزعة أو أخبار عامة، وهنا يظهر الضعف في المحتوى الإلكتروني.
3. من القوانين الصارمة فيما يخص حقوق النشر يفترض على الوزارة إدراج مادة صريحة وواضحة بعدم أخذ تقارير أو استخدام جزء منها، إلا بعد مرور 48 ساعة على نشرها في مصدرها، وبموافقة خطية من مصدر الخبر، وذكر مصدر الخبر في أول فقرة، بدلا من وضعه في آخر سطر من المادة ليعطي إيحاء للمتابع والقارئ بأن الخبر خاص للناقل.
4. في التوجه العام للدولة، نجد التقارير للصحف الورقية ذات قيمة عالية وتتداولها وسائل الإعلام الخارجية، عكس ما ينشر في المواقع والحسابات الإلكترونية، وهذا يفترض أن يعطي المؤسسات الإعلامية اهتماما أكبر ودراسة ومعالجة أوضاعها.
5. يفترض من الوزارة أن تقدم مساعدات للمؤسسات الإعلامية، لتحفيزها وانتشالها من أزماتها المالية الخانقة، والتي تهدد مستقبل هذه الصناعة، وتكون هذه المساعدات مشروطة بخطط تطوير وتحول رقمي، ففي دول عالمية كثيرة تقوم الحكومات بمساعدة وسائلها الإعلامية بطرق مباشرة وغير مباشرة.
وأما من الشق الذي يعنى بالمؤسسات الإعلامية وهيئة الصحفيين، فقد كانت الوفرة المالية للصحف الورقية إلى ما قبل 2013 عالية ومربحة للصحف، ولكنها لم تستغلها في خطط للإعداد لهذه المرحلة، كما فعلت الصحف العالمية التي ذكرتها في أول المقال، بل إن بعضها توسع في منتجاته الورقية، معتقدا أنه بهذا الطريق يكسر القاعدة، مما سبب لهم خسائر تراكمية.
فيجب على المؤسسات الإعلامية الراغبة في الاستمرار في دورها الريادي، الاجتماع على مستوى المديرين ورؤساء التحرير، تحت مظلة هيئة الصحفيين، لدراسة سبل الخروج من الأزمة، مع إيجاد حلول جذرية، ستكون مؤلمة في جزء منها، ولكنها ستكفي للعبور بها إلى بر الأمان، وأكاد أجزم، بل ستعيد لها وهجها وريادتها ومكانتها الحقيقية، بدلا من الوقوف على الأطلال، وكان زمان.
وألخص الحلول في عدة نقاط:
1. يجب إعادة هيكلة هرمية المؤسسات الإعلامية ذات الأقطاب المتعددة لتكون في رأس واحد، وذلك لتسريع خطط التحول.
2. دمج بعض المناصب القيادية الإدارية والتحريرية وكذلك التسويق والإعلان، وذلك لزيادة رشاقة العمل والقرارات.
3. إغلاق كافة المكاتب الداخلية والخارجية للمؤسسات الإعلامية، والاكتفاء بفتح قنوات للتواصل مع المراسلين مباشرة، وكذلك مع القراء والجمهور، لتخفيف الميزانيات، فالإعلام الحديث لا يرتبط بمكاتب بقدر ما يرتبط بصحفيين.
4. تتفق الصحف على إغلاق مواقعها المجانية، ونقل الاشتراكات من الورقية إلى الإلكترونية، كما فعلت الصحف العالمية، وبهذا تتجاوز شكاوى المشتركين ومشكلة النسخ التي لم تصل.
5. تخصص المؤسسات الإعلامية في ميزانياتها جزءا كبيرا للطباعة والشحن وشركة التوزيع، وهذا سيجعل تلك الميزانيات من الماضي، وقد تستفيد منها في خطط تطوير وتعدد منتجاتها.
6. هيئة الصحفيين مطالبة بمخاطبة وزارة الإعلام لإقرار تفعيل العمل بقوانين حقوق النشر.
7. اندماج بعض المؤسسات الإعلامية مع بعضها، أو حسب اتفاقات بين كيانين أو أكثر لإنقاذ ما يمكن، وكذلك للاستفادة من الخبرات في بعض الكيانات، كما في البنوك وبعض الشركات الصناعية الكبرى، وهناك أمثلة كثيرة ناجحة.
وأختم بمقالة لأستاذ الصحافة السعودية ورئيس هيئة الصحفيين خالد المالك، في مقال نشر في صحيفة الجزيرة يوم الخميس 11 يناير، يتحدث فيه عن مستقبل الصحافة الورقية «تمر الآن بمنعطف طريق خطير، ربما إذا ما تأخرت الحلول لمعالجة أوضاعها، وتم التباطؤ في أخذ القرار المناسب، قد لا نستطيع أن نملك القدرة في الاحتفاظ بها، بوصفها صوتا قويا وواجهة مؤثرة في خدمة بلادنا»، ويمكن الرجوع لبقية المقال في الصفحة الأخيرة لنفس اليوم أعلاه.
وفي هذا الاقتباس يفسر لنا أستاذنا المالك الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام الحقيقي المسؤول في نشر الأخبار والتقارير والتحقيقات بمصداقية ومهنية عالية الدقة في مجملها، وكذلك توثيق المصادر الصحفية للرجوع لها وقت الحاجة، وهذا ما يميز الإعلام الحقيقي إلى الآن، عن بقية وسائل الإعلام، وأيضا في ظل فضاءات كثرت فيها الإشاعات والأقاويل الكاذبة، من خلف أجهزة لا نعلم مدى صدقيتها، وبعض الحسابات التي تبث السموم حسب أجندات في غالبها لإثارة البلبلة والتشكيك في الرموز الوطنية، وتعمل لمصلحة دول ومؤسسات معادية.