& محمد الساعد

منتصف شهر رمضان 2017 غادر جمال خاشقجي مدينة جدة السعودية باتجاه العاصمة الأمريكية واشنطن، ساعات من وصوله غرد قائلاً إنه كان ممنوعاً من الكتابة، ممتدحا قرار السماح له، وواصفا نفسه بأنه كسير القلم. جمال لم يكن ممنوعاً من الكتابة. كان ممنوعاً عليه الادعاء لدى مراكز الأبحاث والصحف الغربية بأنه مستشار الأمن القومي السعودي، كان يقول ذلك متعمداً ويقدم نفسه على هذا الأساس، وهو لا يملك أي وظيفة رسمية. لم يكن سوى مستشار إعلامي في السفارة في واشنطن قبل 15 عاما وانتهت علاقته بها.

صادف خروج جمال من السعودية الموقف الرباعي للدول المناهضة للإرهاب من قطر. الأزمة مع الدوحة كشفت من تلوثت أيديهم بالمال القطري، ولم يستطيعوا إلا تأييد مواقفها خشية ابتزازهم وكشفهم.

أسابيع وبدأت أنياب جمال تخرج، وبدأت مواقفه تصبح أكثر حدة وخشونة، كان أولها انحيازه الكامل لقطر ضد دولته الأم، ظهر جمال في القنوات الغربية متحمسا لأمير قطر تميم، ومعارضا بالكامل للقيادة السعودية، متهما المملكة والدول الثلاث الأخرى «مصر، الإمارات، البحرين» بالتهور والانحياز ضد قطر، فما الذي يعجب جمال في قطر، سؤال لا يزال مطروحا للآن، لم يكتف بذلك بل ظهر في حوارات موسعة مع صحف وقنوات تابعة لنظام الدوحة، منها الشرق القطرية التي قال متهكماً على موقف بلاده: «السعودية فشلت في إخضاع قطر»، «الرياض لا تملك إجابة عن الإسلام المعتدل»، «حكم الفرد لا يأتي بخير».

من السخرية أنه كان يتحدث من صحيفة قطرية اشتهر حكامها بالانقلابات المتتالية والتصفيات السياسية والجسدية، وبحكم فردي مطلق.

سنة من المقالات والآراء المضللة وعداء سافر توجه بلقاء سري مع أمير قطر في فندق الفور سيزن في نيويورك عند زيارة تميم لها سبتمبر 2017، جمال كان قد انخرط تماما مع الموقف القطري، وأصبح جزءا من مدفعية قطر في الهجوم على الأمير محمد بن سلمان شخصياً ومحاولة اغتياله معنوياً.

سهلت قطر لجمال الكتابة في صحيفة الواشنطن بوست، التي تمتلك نصف أسهمها وتتحكم في توجهاتها التحريرية، كانت كتابات جمال وآراؤه في التلفزيونات ومراكز الأبحاث الغربية عبارة عن سموم سوداء تجمعها 4 محاور هي:

أولاً.. السعي المتعمد والممنهج لهدم الدولة السعودية ومحاولة إفشال العلاقة مع الدول الحليفة أمريكا، مصر، البحرين، الأردن، الإمارات.

ثانياً.. اتهام الرياض بالعلمانية واستبدال مشروعها الفقهي لإحداث فصل بينها وبين مكونها الشعبي والإسلامي، راجع أول مقالاته (دكان العلمانية) المنشور بصحيفة الحياة غداة خروجه من السعودية.

ثالثاً.. تشويه صورة السعودية وتسميم مشاريعها، وتكريس صورة ذهنية بأنها ضد التيارات، مع قيام جمال بتنظيف سمعة الإرهابيين والحركيين، ودفع الإعلام الغربي وكتاب الرأي والأعمدة في الصحف الشهيرة وأعضاء الكونجرس الأمريكي ومراكز الأبحاث لأخذ مواقف عدائية منها، أرجو مراجعة مقالة تومس فريدمان الأخيرة التي كشف فيها عن لقائه الأخير مع «خاشقجي»، وطلبه انتقاد السعودية وأمله أخذ مواقف سيئة ضدها.

رابعاً.. الانخراط في مشروع إقليمي تقوده قطر وتركيا وإيران والتنظيم العالمي للإخوان لخلق معارضة سعودية «مقنعة» بعد فشل استمر لعقود، جمال كان قد شارك منتصف العام في مؤتمر نظمته الدوحة تحت ما يسمى بالمعارضة السعودية، لقد اصطف مع محمد المسعري وسعد الفقيه المتهمين بمحاولة اغتيال الملك عبدالله، وغانم الدوسري الأراجوز الذي تديره الدوحة، إضافة لبعض الهاربين من قضايا حقوقية وأخلاقية.

كثيرون ممن عرف جمال لا يرون فيه إلا شخصية متلونة نرجسية متضخمة «مصلحية»، أعطى نفسه دون وجه حق أكبر مما تستحق، وعندما فقد بريقه وهمشت مقترحاته هاجم وانتقد بقسوة حتى يلتفت إليه.

كان واضحاً أن جمال أخذ خيارات مختلفة عما يظهره، وأنه دون أن يدري قد وصل كما يقول المثل الشعبي إلى «اللحم الحر» وأحرق على نفسه كل خطوط العودة، الأخطر من ذلك كله أن جمال ارتبط بأجهزة استخبارات دولية وإقليمية، وكما يقال من يلعب بالنار يحرق أصابعه، وربما صفاه أحد تلك الأجهزة أو ممن توصف دائما بأنها طرف ثالث أرادت الوقيعة بينه وبين وطنه.

أخيرا هل صفى جمال خاشقجي نفسه بنفسه كنتيجة طبيعية لاقترابه من خطوط النار والاشتباكات المعقدة والخطيرة بين الأنظمة، وأنه ذهب ضحية طموح شخصي لا يمكن لمثله أن يقوم به، فقد كان يرى نفسه شريكا للسياسيين وأجهزة الاستخبارات والتنظيمات الإرهابية ومنظرا في السياسة، بينما لم يره البعض إلا مجرد صحفي وكاتب رأي أو حتى جهادي سابق، لكنه أبدا لم ولن يكون هنري كيسنجر المنطقة.