إيمان عارف

&

منذ أن ظهرت على السطح أزمة تدفق المهاجرين واللاجئين على أوروبا من ثلاث سنوات تقريبا، وهناك حالة واضحة من التخبط فى معالجة هذه الأزمة التى لم تشهد القارة مثيلا لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فى القرن الماضى.

فبعد أن رحبت بعض الدول الأوروبية باستقبال الآلاف من هؤلاء اللاجئين بدأت فى التراجع بشكل واضح، بعد أن تسببت هذه الأعداد الضخمة فى استفزاز الأحزاب والتيارات اليمينية التى نشطت دفاعا عن الهوية الأوروبية فى مواجهة هذا الطوفان من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين القادمين من مناطق الصراع فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو الأمر الذى لقى صدى واسعا لدى قطاعات من المواطنين أعلنت عن قلقها ليس فقط على الهوية ولكن على وضعها الاقتصادى ومكتسباتها بعد أن زاحمهم هؤلاء القادمين وشكلوا عبئا واضحا على اقتصادات هذه الدول وبرامج الرفاهة الاجتماعية والرعاية الصحية المخصصة لمواطنيها بالأساس، ومن ثم كان نجاح عدد من الأحزاب اليمينية فى بعض الدول الاوروبية مؤخرا دليلا على مقدار الغضب الشعبى من تخبط الحكومات الأوروبية فى معالجة هذه الأزمة المستمرة.

ولكن على النقيض من هذه الفكرة السائدة شهدت العديد من المدن الفرنسية مثل العاصمة باريس ومدينة مارسيليا ومونبلييه مؤخرا وكذلك بعض العواصم الأوروبية الكبرى مثل مدريد وبروكسل وبرلين ومدينة باليرمو الايطالية مظاهرات شارك فيه الآلاف للمطالبة بدعم عمليات إنقاذ المهاجرين فى البحر المتوسط والتنديد بما وصفوه بالتقاعس الاجرامى للحكومات الأوروبية التى شنت فى الآونة الأخيرة هجمة شرسة على سفن انقاذ المهاجرين، وذلك تلبية لدعوة جمعية «إس.أو.إس ميديترانيه» لإظهار الدعم لسفينة الإنقاذ «أكواريوس» العالقة فى ميناء مارسيليا والمهددة بوقف عملياتها الانسانية بعد سحب العلم البنمى منها استجابة لضغوط بعض الدول الأوروبية.

وكانت بداية المظاهرات فى مدينة مارسيليا حيث مقر الجمعية وحيث ترسو السفينة للتأكيد على أن الجمعية وأنشطتها الإغاثية تستمد شرعيتها من المجتمع المدنى فى مواجهة التعنت الحكومى الأوروبى، وهو ما اعتبره المراقبون محاولة من جانبها للاستعانة بالرفض الشعبى ليس فقط كورقة ضغط على الحكومات الأوروبية للتراجع عن قراراتها التعسفية، ولكن وهذا هو الأهم لمواصلة التحرك دعما لانقاذ المهاجرين فى المتوسط، لأنه إذا تم بالفعل إلغاء تسجيل أكواريوس فلن يكون هناك أى سفن إنقاذ إنسانية تعمل قبالة الساحل الليبى فى المستقبل القريب، لأنها سفينة الإنقاذ الوحيدة التى لاتزال تعمل فى منطقة وسط البحر المتوسط وتنقذ المهاجرين الذين يحاولون الوصول لأوروبا قادمين من ليبيا.

وهنا يشير المراقبون إلى أن السفينة ذات الهيكل البرتقالى المعروف، والتى استطاعت منذ بدء عملها فى فبراير 2016 أن تنقذ ما يقرب من 30 ألف مهاجر فى حوالى 200 عملية إنقاذ لم تكن دائما محل ترحيب من الدول الأوروبية وهى تؤدى مهمتها الإنسانية، حيث كانت ولأكثر من مرة فى خضم عملية شد وجذب من عدة دول أوروبية رفضت السماح لها بالرسو على شواطئها مع المهاجرين على متنها. وهو ما وضعها فى بؤرة الاهتمام الاعلامى وجعلها فى بعض الأحيان هدفا لبعض الجماعات اليمينية التى هاجمت مقرها رافعة شعار الدفاع عن أوروبا، وهو الأمر الذى زاد الجمعية اصرارا على استئناف مهمتها فى عمليات الإنقاذ فى أقرب وقت، مؤكدة على لسان المتحدثة باسمها أن السفينة متوقفة بشكل مؤقت انتظارا لرفع علم جديد عليها، بل حثت الدول الأوروبية على مساعدتها فى البحث عن علم جديد تعمل من خلاله.

هذا الحراك الشعبى الأوروبى الأخير سبقه الشهر الماضى مظاهرات مشابهة فى العاصمة الألمانية برلين وفى مدينة هامبورج للمطالبة أيضا بإنقاذ اللاجئين والمهاجرين العالقين فى البحر المتوسط، وهى المظاهرات التى لم تكتف بالتعاطف فقط مع اللاجئين، ولكنها طالبت أيضا بتوفير طرق آمنة تجاه الدول الأوروبية تحت شعار شيدوا الجسور لا الأسوار، وكذلك المطالبة بالتوصل لحل سياسى تتوافق عليه الدول الأوروبية حتى تقوم بمسئوليتها فى إيواء اللاجئين، فى تطور اعتبره البعض لافتا لاعتبار أن ألمانيا تشهد جدلا سياسيا ساخنا بسبب سياسة الباب المفتوح التى اتبعتها ميركل مع المهاجرين.

وهنا يوضح المراقبون أن المطالبات الشعبية للقادة الأوروبيين بالبحث عن حلول توافقية تعد أمرا بعيد المنال فى الوقت الحالى كما تشير المعطيات. فالخلافات بين دول الاتحاد الأوروبى حول معالجة هذه القضية ظهرت منذ بداية الأزمة، ولكنها تزايدت فى الآونة الأخيرة بعد رفض إيطاليا استقبال مهاجرين تحملهم سفن إنقاذ تابعة لمنظمات إغاثية غير حكومية، وهو رفض لم يكن مرجعه سياسة الحكومة الحالية ولكن جزءا منه يعود إلى الخلافات والاتهامات المتبادلة بين دول شمال القارة وجنوبها.

ففى الوقت الذى تشعر فيه دول مثل إيطاليا واليونان بغصة تجاه بقية دول الاتحاد الأوروبى بسبب تركهم بمفردهم فى مواجهة تدفق المهاجرين على شواطئهم، توجه بعض الدول الأخرى اللوم لهما لعدم قيامها بتأمين حدودهم البحرية المتوسطية بشكل صارم وهو ما أتاح للمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين فرصة التسلل للدول الغنية مثل ألمانيا والنمسا والسويد.

هذا الانقسام والتردد الذى يعصف بدول الاتحاد الأوروبى التى لم تستطع التوافق على إستراتيجية محددة لمواجهة هؤلاء القادمين، ورفضت أى مقترح بتحديد حصص لدول الاتحاد لاستقبالهم ألقى بظلاله على الواقع السياسى الأوروبى بأكمله، ودفع البعض لمطالبة القادة الأوروبيين بالعمل جديا على ايجاد حل توافقى مشترك، حتى لا تصبح مثل هذه القضية الإنسانية الشائكة رهنا بتحركات انفعالية أو عاطفية لن تسهم فى حل المشكلة بل ستزيدها تعقيدا.