& ميشال أبو نجم

عندما التقت «الشرق الأوسط» أمين عام الجامعة العربية في مدينة برشلونة على هامش المنتدى الوزاري الثالث للاتحاد من أجل المتوسط، لم يرد الخوض مباشرة في الإجابة عن أسئلة تتناول البؤر الساخنة التي يعيشها العالم العربي من اليمن إلى سوريا مرورا بليبيا والإرهاب والهجرات المتدفقة عبر المتوسط... فقد فضل أحمد أبو الغيط أن يتناول رؤيته للمتغيرات الاستراتيجة التي تهز العالم اليوم كما فقهها ولمسها مستندا إلى كل ما سمعه ورآه وشارك فيه وما جرى في الأيام العشرة الأولى من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ذلك أن الأمين العام يعتبر أن الجمعية العامة من حيث إنها نظريا المحفل الدولي الذي تعود إليه المحافظة على السلم والأمن في العالم، تشكل المرصد الأفضل لرؤية وقراءة ما يحصل وما تعكسه من إرهاصات تؤشر للتغييرات التي تعتمل في عالم اليوم وكيف يمكن أن تكون لها انعكاسات على المسائل والقضايا التي تهم العالم العربي بالدرجة الأولى.



في هذا الحديث الذي خص به «الشرق الأوسط» يركز أبو الغيط على التحولات التي تعرفها الولايات المتحدة الأميركية مع وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وعلى النزاعات التي ستتواجه بها مع الصين القوة الصاعدة، وروسيا القوة التي تريد العودة إلى واجهة المسرح الدولي. كذلك يتناول الانقسامات التي تعتمل في «المعسكر الغربي» بجناحيه الأميركي والأوروبي إضافة إلى ظاهرة رغبة القوى الإقليمية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط باستعادة «مناطق نفوذ» تعتبرها «تقليدية» بالنسبة إليها، مشيرا بذلك إلى تركيا وإيران. كما أشار إلى ضرورة أن ينتبه العرب، لحل مشكلاتهم، وألا يعولوا على منقذ من الخارج.

وبالنسبة لليبيا، يحث أمين العام الجامعة العربية الأمم المتحدة على فرض عقوبات مشددة على الجهات التي تمنع الحل وعلى التحرك حتى لا تستمر أموال النفط في تمويل الأطراف المتحاربة. وأخيرا، دعا أبو الغيط الإدارة الأميركية إلى التراجع عن إجراءاتها «الظالمة» بحق الفلسطينيين الذين «لم تترك لهم أي خيار» للبقاء على تواصل معها.

> ما إرهاصات التحولات الرئيسية التي يتعين التوقف عندها والتي تدل على تغيرات أساسية في المسرح الدولي وكيفية انعكاسها على العلاقات بين الدول الرئيسية وحول كيفية إدارة شؤون العالم ونزاعاته وذلك من خلال مشاركتك في أعمال الجمعية العامة الرئيسية وفي كثير من الاجتماعات التي جرت على هامشها؟ ما هي الخلاصات؟

- النقاشات التي شهدتها نيويورك هذه السنة، تمثل في نظري، أهم ما عرفته الأمم المتحدة منذ سنوات إن لم يكن من عقود. وأقول هذا استنادا إلى خبرتي العميقة بشؤون المنظمة الدولية. ولا يخفيك أن لي تجربة واسعة ومعرفة وثيقة بأعمال الأمم المتحدة والجمعية العامة. وبداية، أود أن أقول إن أهم ما رصدته يتناول من جهة المقاربة الأميركية الجديدة لشؤون العالم وفق ما جاء في خطاب الرئيس دونالد ترمب من حيث إنه يعكس رؤيته لدور أميركا وموقعها في العالم اليوم. والثاني كان خطاب أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

الواقع أن الأول عبر عن موقف رئيسي أرى أن خطورته تكمن في أنه يأخذ الولايات المتحدة إلى خارج السياق العام الذي عملت من أجله وخططت له وأنشأته وهو عالم ما بعد العام 1945. فالرئيس الأميركي تناول أولوية «الوطنية» الأميركية على ما عداها وشرح رؤية اليمين الأميركي من حيث إن أميركا أولا ولا شيء يعني أميركا إلا أميركا. وفي رأيي أن هذا الطرح يعكس خروجا كاملا عن السياق العام الذي شهده العالم لمدة 70 عاما. وخطورة هذا الكلام أنه لا يعكس فقط توجهات الرئيس الحالي ولكن رؤية تيار أميركي له الغلبة الآن. وهذه نقطة أساسية، إذ إن الولايات المتحدة تسعى لإنهاء نتائج ما بعد 45 وهي تريد أن يقبل العالم بما تفرضه من جديد.

> وماذا عن غوتيرش؟

- بعكس ترمب، فإن أنطونيو غوتيريش نبه إلى المخاطر المحيطة بهذه المقاربة عن طريق إشارته إلى ما يسمى «مصيدة ثيوديديس» التي تعني خطورة أن تستشعر القوة المهيمنة وفي هذه الحالة أميركا خطورة قطب صاعد منافس وهو المتمثل اليوم في الصين سواء اقتصاديا أو عسكريا أو سياسيا ما يفتح الباب أمام حصول «اشتباك» يمكن أن يتحول من اشتباك حول التجارة وتعرفاتها والخروج من القيود والقوانين التي تتحكم بها، ما يؤدي إلى هدمها وإلى مواجهة «باردة» بين القطب الصاعد والقطب الذي يخشى القوة الصاعدة. وثمة احتمالات أن تتطور الأمور بالتالي إلى مواجهة عناصرها الأساسية موجودة.

وإشارة غوتيريش إلى «مصيدة ثيوديديس» مردها إلى أن هذا الأخير كان قائدا عسكريا ومؤرخا لـ«حرب البلوبينيز» في اليونان التي جرت ما بين العامين 431 و404 «ق م» التي دارت بين أثينا من ناحية وبين سبارطة من ناحية أخرى عندما استشعرت الأخيرة خطورة القوة الصاعدة التي اسمها أثينا. وكان هدف الحرب أن تقضي سبارطة على المنافسة الجديدة. واليوم ثمة خشية من صدام صيني - أميركي وعناصر الالتحام الأميركي - الصيني موجودة ومتمثلة في الامتداد الاقتصادي والقوة العسكرية المتنامية للصين وأيضا الطموحات الصينية الواضحة والواسعة في بحر الصين الجنوبي.

بموازاة ذلك، ثمة بعد آخر يتعين التوقف عنده والتأمل في تأثيراته وقوامه عودة القوة الروسية إلى استعادة تأثيرها في العالم. وواضح اليوم أن الولايات المتحدة تسعى لتضييق الخناق على روسيا ومواجهتها. لكن نتيجة هذه السياسة أن أميركا تدفع بكل من الصين من ناحية وروسيا من ناحية أخرى إلى تحالف استراتيجي. وهذا تحول بالغ الأهمية وله نتائجه وتبعاته وانعكاساته على منطقتنا.

> لكن الرؤية الأميركية الجديدة وفق إدارة ترمب لا تحظى بإجماع لا داخل أميركا ولا داخل المعسكر الغربي وتحديدا لدى الأوروبيين كما بينت ذلك الأحداث في الأشهر العشرين الأخيرة على أكثر من صعيد تجاري واقتصادي وسياسي وحتى أمني.

- نعم، هذا ما أسميه البعد الرابع وقد برز بقوة في خطاب الرئيس الفرنسي عندما طرح رؤية مختلفة لا بل مناقضة لرؤية الرئيس الأميركي وبالتالي نحن نرى تململا في المعسكر الأوروبي - الغربي بين الجناحين الأميركي والأوروبي. ونضيف إلى ذلك أننا سجلنا ما حصل من صدامات في بروكسل داخل الحلف الأطلسي بين واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية. إذن، هناك حالة من الانقسام في العالم وهناك أوضاع عربية مأساوية سواء في ليبيا أو سوريا... وبالنظر لما نراه من حالة التنافس الأميركي - الروسي والأميركي - الصيني والانقسام الأوروبي - الأميركي، ثمة تبعات وانعكاسات يتعين أن نأخذها كعرب بعين الاعتبار. وبكلام أوضح، لا يتعين علينا نحن العرب أن نعول كثيرا على أن هناك إنقاذا يمكن أن يأتي من العالم الخارجي. الإنقاذ يجب أن يأتي من داخلنا. ولذا، علينا أن نتنبه حتى لا نستخدم كوقود في هذه النزاعات وألا نشكل نقاط ارتكاز للنفوذ في الصراع من أجل الهيمنة. يضاف إلى ذلك أن القوى الإقليمية، في الجوار العربي ترى ما هو قادم وتعي هذه المنافسات وبالتالي تسعى لبناء إمكانيات داخل أراضينا. وعلى سبيل المثال، فإن إيران تسعى للوجود في المنطقة التي تسميها منطقة «النفوذ التقليدي» والأمر نفسه يصح على تركيا، والعرب للأسف حتى الآن، ضائعون، تائهون.

> لو جئنا إلى انعكاسات هذا الوضع الدولي على أزماتنا، ما الذي يتعين التوقف عنده فيما خص الأزمات السورية والليبية والنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي؟

- فيما خص الحرب في سوريا، لقد تبين من الاتصالات واللقاءات أن العرب أخذوا يتنبهون الآن للحاجة لأن يعودوا للعب دور مؤثر في الأزمة السورية، لكن حتى اليوم، يبدو أن هذا الدور يأتي من خارج سياق الجامعة العربية ولكن ليس من المستبعد أن يكتمل ويتبلور لاحقا في إطار مؤسسي عربي. وفيما أقوله إشارة إلى اجتماعات دارت في نيويورك وضمت المملكة السعودية ومصر والأردن والإمارات والبحرين على مستوى وزراء الخارجية للتشاور في الملف السوري، إضافة إلى اجتماع آخر للوزراء المعنيين مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. ورأيي أن هناك اهتماما عربيا بازغا بالأزمة والتحضير للعب دور مؤثر فيها.

وبالنسبة لليبيا، أعتقد أن نيويورك قد كشفت عن توجه جديد للأمم المتحدة، بحسب ما جاء به المبعوث الدولي غسان سلامة، الذي أشار إلى الحاجة لفرض عقوبات والتعامل بحزم لمواجهة المجموعات المسلحة. والطامة الكبرى أن هذه المجموعات تستفيد من أموال النفط الليبي لدوام الحرب في ليبيا. وهذا في نظري يشكل مأساة كبرى حيث إن النفط الليبي وعائداته تمول تدمير ليبيا وبنيتها التحتية. أما البعد الآخر فهو أن هناك قناعة لجهة استحالة عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل 10 ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي مثلما صدر عن اجتماع باريس. بالتوازي، فإن إيطاليا وهي دولة لديها اهتمام رئيسي بليبيا، تحضر لعقد مؤتمر في صقلية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) وسوف نشارك فيه.

ولكن ما رصدته وجود مؤشرات تفيد بوجود منهج تحرك آخر يتم التفكير فيه في الأمم المتحدة والدول الغربية وهو شيء يشبه الـ«لويا جيرغا» أي اجتماعا موسعا لكل القيادات والأحزاب والمجموعات وممثلي المدن والقبائل لأيام أو أسابيع لتحقيق توافق حقيقي يخرج ليبيا من انقساماتها الحالية. هل يمكن تنفيذ هذا المشروع وهذه الأهداف؟ الوقت ما زال مبكرا للحكم على مبادرة كهذه لأن الأمور لم تتبلور بعد وما زال هذا المشروع قيد البحث الخافت.

> لا شيء عن ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؟

- قمة قلق وضيق شديدين بسبب توقف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية وهذا الملف أصبح في مؤخرة الاهتمامات الدولية للأسف رغم كل الجهود التي قام بها الجانبان الفلسطيني والعربي وكثير من القوى الأوروبية. والملاحظ، أن هناك دولا أوروبية تفكر جديا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية ثنائيا، منها على سبيل المثال إسبانيا وآيرلندا. كذلك، فإن بلجيكا ليست ببعيدة عن هذا التفكير.

> هل هناك مبادرة أوروبية جماعية مثلا؟

- لا ليست هناك اليوم مبادرة أوروبية جماعية مطروحة. ليس بعد.

> هل أخطأ الفلسطينيون في القطيعة مع إدارة ترمب؟

- إدارة ترمب ارتكبت عملا يبتعد كثيرا عن الإطار القانوني الدولي وعن القيم الأميركية التي نحن قرأنا عنها ومنها ادعاؤها التمسك بالعدل والقيم الإنسانية. والواقع أن هذه الإدارة تصرفت ضد قواعد القانون الدولي باعترافها بالقدس الكاملة عاصمة لإسرائيل رغم ادعائها أنها اعترفت فقط بالقدس الغربية، كأمر واقع ولكن في الحقيقة كامل القدس. ويجب أن تتراجع عن هذا القرار وإلا فلا مجال للمفاوضات. كذلك قررت أن تزيح قضية القدس بكل أبعادها الدينية والقومية لدى العرب والمسلمين والمسيحيين وقد اتخذت موقفا في غاية الظلم للفلسطينيين فيما يتعلق بالأونروا. وهكذا، لم تترك هذه الإدارة أي فرصة للقيادة الفلسطينية حتى تتفاعل معها وتبقى على اتصال بها.