&داليا عاصم

تعتبر قضية تجهيل المصادر الصحافية من القضايا الشائكة في العمل الإعلامي والصحافي في الصحف العالمية والعربية كافة، ومن آن إلى آخر تطفو على السطح، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بمصائر الشعوب، أو في التغطيات المتعلقة بقضايا الفساد والأزمات الكبرى والكوارث. وتعتبر هذه الحقبة التي بدأت منذ اندلاع ما يطلق عليه «ثورات الربيع العربي» تشهد الصحافة العالمية ظاهرة «تجهيل المصادر»، فلن تجد صحيفة أجنبية أو عربية تخلو من عبارات مثل «مصدر مطلع»، أو «قالت مصادر»، أو «صرح مصدر رفض ذكر اسمه»، أو «ذكر مصدر أمني»، وغيرها من طرق نسب المعلومات المهمة والحساسة إلى مصادر من دون ذكر اسمها وهويتها للقارئ.

في مصر، تحديداً هناك مطالبات بسنّ قانون يمنع الصحف من الاستعانة بـ«المصادر المُجهّلة»، حيث أدى ذلك إلى انتشار الشائعات، وإثارة مخاوف المواطنين. وأدى الإفراط في نسب الأخبار لمصادر مجهولة للقراء إلى زعزعة ثقتهم في الصحف المحلية.

«الشرق الأوسط» تتساءل إلى أي مدى يمكن تطبيق ذلك على أرض الواقع؟ وهل هناك مجال لصحافة من دون مصادر مُجهَّلة؟



من الناحية الأكاديمية والنظرية والمهنية والعملية أيضاً، يعتبر «المصدر المجهل» أمراً لا بد منه؛ بل من المبادئ الأساسية للصحافة، حيث ينبغي على الصحافي حماية مصادره، وعدم الإضرار بهم بأي حال من الأحوال؛ لكن الإفراط في نسب المعلومات لمصادر مجهلة يضر بمصداقية الصحف والمؤسسات الإعلامية، إذا ما لم توضع ضوابط شديدة وحازمة لاستخدام «المصدر المجهل».

ومن أبرز الأوقات التي استعانت فيها الصحف الأميركية بـ«مصدر مُجهل» كانت تغطية قضية «بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي»، في ذاك الوقت اشترط المحرر التنفيذي في صحيفة «نيويورك تايمز» على الصحافيين ضرورة التأكد من شرطين، وهما: «ما مقدار المعرفة المباشرة لدى المصدر المجهل عن الحدث؟، ما هو دافع المصدر لإخفاء هويته؟».

‏الدكتور خالد عبد الله الحلوة، الأستاذ المساعد في قسم الإعلام في كلية الآداب، جامعة الملك سعود، قال لـ«الشرق الأوسط»: «‏استخدام المصادر المجهلة، ظاهرة قديمة في الصحافة والإعلام، والكثير من المؤسسات الصحافية تعتمد على مصادر مجهلة، أي من دون ذكر اسم الشخص الذي أدلى بالمعلومات؛ وذلك لأسباب كثيرة».

‏ويشير الحلوة إلى أن «قضية المصادر المجهلة لها مزايا وعيوب عدة في الوقت نفسه». مؤكداً «ضرورة أن نعرف لماذا تعتمد بعض الصحف ووكالات الأنباء وغيرها من المؤسسات الإعلامية على المصادر المجهلة»، مضيفاً «يقول العاملون في الصحافة إن الكثير من القضايا الحساسة لا يمكن كشفها إلا بالاعتماد على المصادر المُجهلة... فقد يكون هناك أشخاص لديهم معلومات مهمة جداً، لكنهم لا يريدون الكشف عن هويتهم لحماية أنفسهم من العواقب، مثل خسارة وظائفهم أو مناصبهم أو خسارة سمعتهم».

ويضرب الحلوة أمثلة لتحقيقات صحافية اعتمدت على مصادر مُجهلة في كشف الحقائق. ومن أشهرها فضيحة «ووتر غيت» التي استقال بسببها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. وقد نشرت هذه التحقيقات صحيفة «واشنطن بوست»، واعتمدت فيها على مصدر مجهل واحد أساسي، بالإضافة إلى مصادر أخرى. وهناك قضايا فساد أخرى تم نشرها تتعلق بشركات كبرى في أميركا وقضايا مماثلة في بريطانيا وأوروبا، تشمل فساداً في مستشفيات ومصانع أغذية، ومعظمها قضايا تتعلق بأمن وسلامة المواطن، وقد رأت وسائل الإعلام في تلك الحالات، أن من واجبها كشفها كجزء من وظيفتها في خدمة المجتمع.

‏ويلفت الحلوة إلى وجود عامل مؤثر في ظاهرة «المصادر المجهلة»، ألا وهو أن «القانون في أميركا وأوروبا والكثير من دول العالم يعطي حماية للصحافي، في أن يستخدم مصادر مجهلة ويحتفظ بسرية هذه المصادر... ومن واجب الصحافي أن يحتفظ بسرية المصدر حماية لأمن هذا المصدر»، موضحاً، تحرص المؤسسات الإعلامية على الالتزام بهذا المبدأ لضمان استمرار الثقة بين الصحيفة ومصادرها؛ لأنه في حالة إخلال الصحيفة باتفاقية حماية هوية المصدر، فإنها سوف تخسر مصادرها التي تعتمد عليها في الحصول على المعلومات، وتصبح غير قادرة على أداء واجبها في كشف الحقائق التي تهم المجتمع وتمس مصلحته وأمنه».

وحول مزايا وعيوب استخدام المصادر المجهلة، ذكر الدكتور خالد الحلوة «‏من أهم المزايا أن الصحيفة تستطيع الحصول على معلومات مهمة من المصادر التي تثق بها، مع اشتراط هذه المصادر بالحفاظ على السرية لحماية نفسها. وهذا يساعد على حماية المصادر من العقوبات أو التداعيات التي قد تضر بهم، وفي الوقت نفسه تزيد من قوة العلاقة بين الصحيفة ومصدر الخبر وتضمن استمراريتها». ‏مضيفاً «لكن من العيوب، أن استخدام المصادر المجهلة يقلل من مستوى الثقة بالصحيفة ويقلل احتمال تصديق أخبارها؛ لذلك تلجأ معظم الصحف ووكالات الأنباء إلى نشر معلومات من مصادر عدة بعضها مجهول، والبعض الآخر معروف، لتعزيز ودعم مصداقية الخبر».

ويذهب الحلوة أيضاً إلى أنه «من العيوب أن بعض المصادر المجهلة يكون لها دوافع شخصية متحيزة ويكون ذلك غير معروف للقارئ، فيؤثر في توجيه الرأي العام تجاه القضية دون وعي من الصحافي نفسه، إن لم يكن حذراً في التعامل مع مثل هذه المصادر... ومن العيوب أيضاً أن هناك بعض الصحافيين ممن يمكن أن يزوّر معلومات ثم ينسبها إلى مصدر مجهول، وهي ليست معلومة حقيقية إطلاقاً، ولا يوجد لها مصدر فعلي أصلاً. ‏وهذا ما يحدث الآن في عصر الإعلام الرقمي المتعدد والمتنوع، وعصر وسائل التواصل الاجتماعي».

ويستطرد «هذا ما يفسر زيادة نسبة (الأخبار الكاذبة) يوماً بعد يوم. لكن هذا يفرض على الصحافة الجادة والإعلام الملتزم مضاعفة الجهود بنشر الأخبار الموثوقة وتقليص الاعتماد على المصادر المجهلة، ودعم الأخبار بمصادر عدة، ووجهات نظر عدة لدعم وتعزيز مصداقيتها أمام الجمهور».

‏من جانبه، يرى الكاتب الصحافي المصري الدكتور ياسر ثابت، أن تجهيل المصدر في الإعلام قد يكون مبرراً في حالات محددة ووفق ضوابط مهنية، ولاعتبارات تتعلق بظروف المصدر وحساسية موقعه أو طبيعة بلد معين يتعامل بقسوة مع إعلان الحقائق.

وحول الجانب المهني في استخدام «المصادر المجهلة» وعدم استخدامها، يقول ثابت لـ«الشرق الأوسط»: «مهنياً، يمكن الأخذ بالمصدر المجهل إذا كانت المعلومات من المصدر المجهل مهمة وحيوية للغاية للقصة، ولا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى، شريطة أن يكون المصدر موثوقاً فيه وفي مركز يمكنه من الاطلاع على المعلومات بدقة».

أما من الناحية الواقعية، فيؤكد ثابت أن «المصادر المجهلة هي المفتاح الوحيد لكشف قصة كبيرة، وكشف الستار عن الفساد وإكمال المهمات الصحافية للمراقبة على الحكومات وإخبار المواطنين، لكن أحياناً المصادر المجهلة هي الطريق إلى سقوط مهني وأخلاقي». ويضرب مثالاً بصحيفة «نيويورك تايمز» التي أصدرت تعليمات تطلب من المحررين الحصول على الموافقة من الإدارة على استخدام «مصدر مجهل» في القصة.

بشكل عام، يرى ثابت أن «الأقوال المنقولة عن مصدر مجهل يجب التقليل من استخدامها، كما أنها تستخدم فقط حينما تكون محورية للقصة، والكشف عن تلك المصادر يضر بالمصدر وموقعه الحالي أو سلامته الشخصية... ومن أهم الشروط المهنية أن يكون المحرر على علم بهوية محددة لأي مصدر مجهل قبل النشر». وهنا يؤكد ثابت على نقطة مفصلية، ألا وهي «قبل ضمان سرية المصدر، يجب أن يكون هناك نقاش مفصّل حول سبب رغبة المصدر في عدم تحمل المسؤولية، وهل يحتاج الصحافي إلى حماية المصدر في هذه القصة أم لا؟».

ويرى ثابت أن «(المصادر المجهلة) كما يفضل تسميتها وليس المجهولة؛ أمر جائز شريطة أن تكون معلومة لدى الصحافي على الأقل ولا يكشف عنها لاعتبارات دقيقة ومقبولة».

من جهته، يؤكد الدكتور عثمان فكري، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، أن الاستعانة بالمصادر المجهلة مرتبط بشكل أساسي بحق الصحافي في حماية مصادره في بعض الأحيان. ويرى أن جزءاً أساسياً في هذه القضية الصحافية الشائكة مرتبط بقانون إتاحة المعلومات وحرية الاطلاع عليها، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» «إذا صدر هذا القانون، ولبّى رغبات الإعلاميين والصحافيين في حرية الاطلاع على المعلومات في القضايا كافة بوسائل مشروعة وقانونية، يمكن أن يقلل هذا إلى حد كبير من الاعتماد على المصادر المجهلة».

أما عن قضية المصداقية، فيرى فكري، أنها «قضية أوسع من أن يتم ربطها فقط بمعيار واحد هو طبيعة المصادر، إذا كانت مجهلة أو معروفة، هذه قضية مرتبطة بأبعاد وعناصر كثيرة جداً في العمل الصحافي والإعلامي.

ويخلص فكري، إلى أنه «يمكن أن يكون في مصر صحافة دون (مصادر مجهلة) في حال توافر السبل القانونية لاطلاع الصحافي على المعلومات بحرية، وحمايته قانونياً في هذا الشأن».