& بكر عويضة

&&

ليس مفاجئاً أن يزدحم المشهد الفلسطيني العام، سياسياً، بتناقضات تثير حيرة الأقربين، أي عموم الفلسطينيين أنفسهم أولاً، ثم أبناء عمومتهم مِن العرب ذوي القربى، غير المقصرين في إسناد قضية يؤمنون أنها تخصهم، تماماً كما تعني أهلها، ثم إن الحيرة نفسها تستدعي دهشة الأبعدين، بمعنى المتضامنين مع شعب فلسطين، وأقصى بيت المقدس، في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، إضافة إلى المتعاطفين من الأصدقاء في مختلف أصقاع العالم. بيد أن مَشاهد الأسبوع الماضي تضمنت مشهدين مما يقع في فلسطين، تناقض كلٌ منهما مع الآخر تناقضاً يصرخ بعمق الهوة بينهما. مشهد شبان عند الخط الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل يُقتلون فيما يصرخون بحق العودة إلى أرض الأجداد، ومشهد نزاع بين أطراف فلسطينية بشأن صفقة بيع منزل، تحمل شبهة أن البيع من شأنه تمكين اليهود من الاستيلاء على مزيد من الأرض في القدس الشرقية المحتلة.
إصرار شبان غزة على استمرار مظاهراتهم التي بدأت سلمية، رغم شراسة جنود إسرائيل وعدوانيتهم في مواجهتها، واستشهاد سبعة منهم الأسبوع الماضي، أضيفوا إلى أعداد قُتلوا منذ بدأوا مسيرتهم قبل شهور، كان يوجب أن تضع قيادات كل التنظيمات الفلسطينية خلافاتها الفصائلية جانباً، وأن تكثف جهودها بهدف الوصول إلى حلم الفلسطينيين كافة بتحقيق المصالحة، وهو الحلم الذي بات هو الآخر، كما حلم حق العودة، أقرب إلى المحال منه إلى المَنال. إنما، بدل توافق كهذا يثبت أن قيادات الفصائل الفلسطينية تقدم صالح الفلسطينيين على مصالح التنظيمات، راح كل طرف يفرض من الشروط ما يصعّد الخلافات. مثلاً، تناقض محيّر، حقاً، أن تكون السُلطة في رام الله على استعداد لإبداء المرونة الضرورية لتسهيل استئناف التفاوض مع حكومة نتنياهو، وهذا تصرف سياسي مطلوب بهدف دحض مزاعم تل أبيب، بينما تعترض السلطة، على مساعي تهدئة جرت بوساطة مصرية بين سلطة قطاع غزة، المتمثلة في حركة «حماس»، وإسرائيل، بغرض تخفيف معاناة الحصار عما يقرب من مليوني إنسان. حركة «حماس»، من جهتها، لا تُقصّر في إثارة الحيرة عندما تفشل أجهزتها الأمنية في ضبط ما يجري ضمن مظاهرات «مسيرة العودة». المفروض بذل أقصى الجهد كي يبقى هذا النشاط سلمياً. ليست ثمة فائدة تُرجى من استفزاز جنود احتلال مدججين بأشد الأسلحة فتكاً. كلما كظم شبان المسيرة غيظهم إزاء الصلف الإسرائيلي، أمكنهم الفوز بتعاطف عالمي معهم، من شأنه أن يزيد إحراج إسرائيل في المحافل الدولية.


مؤلم أن ترى تناقضات فلسطينية تحيّر في وقت صعب يواجه الفلسطينيين كافة، ويوجب على الجميع التحلي بأعلى درجات تحمل واجب المسؤولية. مثير للحيرة، فعلاً، أن يُقدم فلسطيني على بيع عقار في القدس الشرقية وهو يعلم، مُسبقاً، أن البيع من شأنه أن يمتلك مستوطن يهودي العقار ذاته. إذا صح ما نقلته «بي بي سي»، نهار الجمعة الماضي، عن مسؤول في بلدية القدس زعم وجود صفقات بيع ممتلكات أقدم عليها فلسطينيون لصالح يهود في القدس الشرقية، وسوف يُعلن عنها قريباً، فإن المسألة تصبح أكثر من مجرد تناقضات محيّرة، الأصح أنها كارثة حقاً.
في هذا السياق، وجدتني أستحضر من قاع الذاكرة أول معركة جدل سياسي خضتها طالباً بالسنة الأولى في جامعة القاهرة خريف 1966، عندما صدمني تساؤل طلاب مصريين «لماذا باع الفلسطينيون أراضيهم لليهود؟». ثم إن ألم السؤال كان يتضاعف إذ يضيف السائل: «بعتم الأرض وهربتم إلى الدول المجاورة». بالطبع، مجرد الاقتناع بأن سؤالاً كهذا يمكن أن يوجه، كان يفضح مدى الجهل القابع في رأس السائل. إنما، للأسف الشديد، بعض شرائح بين طلاب مصر كانت، زمنذاك، تعتقد أن البيع حصل، وبالتالي تسأل الفلسطيني، إذا لاحت الفرصة، وهي محقة في ذلك، لماذا؟ المؤلم أكثر، أن ذلك كان يعكس، في الآن نفسه، حجم فشل أجهزة التوعية زمن نظام الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أعطى تحرير فلسطين أولوية كادت تسبق أغلب أولويات مصر والمصريين، في تبيان حقيقة أن بعض كبار الملاك العرب باعوا بالفعل قطع أراضٍ كانوا يملكونها قبل قيام إسرائيل ليهود، ومن جهتها وظفت الدعاية الإسرائيلية صفقات البيع تلك لتشويه الفلسطيني وتبرير اغتصابها لكل فلسطين. إنما ذلك شيء مؤلم من أمس مضى، ماذا عن الغد؟ أما آن وقت توقف مسلسل تناقضات فلسطينية تُحيِّر، وتؤلم؟