مايكل يونغ&& &

عماد الدين بادي ناشط مولود في ليبيا وخبير في التنمية، يبلغ من العمر 26 سنة. يعمل راهناً في فرع «مبادرة التغيير السلمي» في شمال أفريقيا، وهي منظمة تتخذ من المملكة المتحدة مقراً. يتولى أيضاً منصب الرئيس التنفيذي لمنظمة أهلية يقودها الشبان، حيث يركّز بادي على إشراك النساء والشبان في السلام والأمن. شارك في الكثير من البرامج الشبابية والقيادية، وهو قائد وزميل في مجال الحوار بين الثقافات في تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، وصاحب خبرة في شؤون الهجرة، ومكافحة الإرهاب، وتسوية النزاعات. مُجاز في اللغة الفرنسية من جامعة طرابلس في ليبيا، وحائز إجازة في إدارة الأعمال من جامعة إسيكس. أجريت مقابلة معه مطلع أيلول (سبتمبر) للوقوف على رأيه من الوضع الراهن والآفاق المستقبلية في ليبيا.


> كيف يبدو الوضع اليوم في ليبيا، بوجود حكومتَين بينهما خصومة؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى مستقبل البلاد؟

- الوضع السائد راهناً في ليبيا يحمل في طيّاته ملامح الحرب الأهلية وانهيار الدولة على حد سواء. فمن جهة، النزاع، ولو كان متقطّعاً، ماثلٌ على الدوام في المشهد الليبي، وأخطار التصعيد قائمة على نطاق واسع في الساحة الليبية التي تزداد تفكّكاً. وعلى الصعيد الداخلي، لا يمتلك أيٌّ من الفصائل الليبية المتناحرة العناصر التي تتيح لها تعزيز الوئام الاجتماعي والحؤول دون وقوع الانحلال التام. في الوقت نفسه، تفتقر النخبة السياسية المقسَّمة فئوياً في ليبيا إلى محفّزات من شأنها أن تدفعها نحو قيادة عملية إصلاح سياسي، ما يضع البلاد في مأزق شديد. وعلى رغم توافر فرص متعددة لقادة الفصائل المختلفة من أجل الاجتماع لإجراء محادثات برعاية قوى غربية، إلا أن تلك الجهود فشلت في ثنيهم عن تعنّتهم. والمؤسف أنه لم يتحقق أيضاً أي تقدّم في خطة العمل التي وضعها المبعوث الخاص للأمم المتحدة في ليبيا، غسان سلامة، والتي أقرّها مجلس الأمن الدولي في كانون الأول (ديسمبر) 2017.

«لعنة الانشطار إلى قسمَين» هي السمة الأساسية التي طبعت انهيار الدولة في ليبيا والدوّامة الانحدارية التي ألقت بالبلاد في خضم مزيد من الاضطرابات. يتّضح لمراقبي الشأن الليبي اليوم أن وضعاً قائماً معيّناً يسود البلاد بفعل وجود حكومتَين متخاصمتين، الأولى في طرابلس والثانية في بنغازي. أصبح الانقسام السياسي معمّماً باطراد، مُلقياً بوزره على جميع المؤسسات الليبية تقريباً، والتي كانت تُعتبر سيادية من قبل.

خير مثل على هذا الواقع النزاع الذي اندلع في حزيران (يونيو) الماضي في الهلال النفطي الليبي، والذي بلغَ أوجه بإقدام المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، على تسليم الموانئ النفطية إلى شركة نفط وطنية مقرها بنغازي. لقد وضعَنا ذلك وجهاً لوجه أمام الواقع المؤسف، إذ كشف أنه حتى شركة النفط الوطنية المرموقة في طرابلس (التي لا تعترف بنظيرتها في بنغازي)، لم تتمكّن من تجنُّب لعنة الانقسام السياسي، على رغم أنها ساهمت في منع انهيار ما تبقّى من الاقتصاد الليبي. نستخلص مما تقدّم أنه إذا لم يكن هناك إصلاح واسع النطاق للدولة، يشمل إجراءات لإصلاح الاقتصاد والقطاع الأمني، ستستمر مشكلات الحوكمة في ليبيا بما قد يؤدّي إلى حدوث التقسيم.

> لقد تحوّل النزاع الليبي إلى نزاع إقليمي أوسع في بعض الجوانب. هلّا تصفون لنا بإيجاز كيف يتدخّل فرقاء خارجيون عرب أو أوروبيون في البلاد، وما يمارسه ذلك من تأثير.

- على رغم أن الجزء الأكبر من العنف يدور داخل الأراضي الليبية، إلا أن النزاع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقوى خارجية تتنافس على فرض نفوذها الجيوسياسي، ونادراً ما تكون مدفوعةً بالرغبة في العمل لمصلحة الآخرين، لا بل تسعى إلى تنفيذ أجندات متنافسة، ما ساهم في الدمار.

لعل خط النزاع الملموس الأبرز في ليبيا يتمثّل في النزاع الدائر بين أنصار الإسلام السياسي ومعارضيه، والذي يطغى على الخطاب العام في البلاد منذ اندلاع الانتفاضة عام 2011. في الوقت ذاته، تنظر الدول المجاورة إلى ليبيا على أنها تشكّل تهديداً أمنياً لها. وقد تموضعت الجزائر وتونس والنيجر وتشاد والسودان ومصر على هذا الأساس، فجميعها متورّطة في اللعبة الليبية. ودرجة تدخّلها في النزاع الليبي تُمليها طبيعة التهديد الذي يُعتقَد أن ليبيا تمثّله لأمنها القومي وتاريخها ومستجدّاتها السياسية المحلية وتحالفاتها الإقليمية.

هذا وقد مارست العوامل أعلاه تأثيراً أيضاً في تدخل الفرقاء الأوروبيين. على سبيل المثل، تمتلك إيطاليا روابط تاريخية مع ليبيا، وتنظر إلى عبور اللاجئين للبحر انطلاقاً من الأراضي الليبية بأنه يشكّل تهديداً لأمنها القومي. من جهة أخرى، لا تتأثر فرنسا مباشرة بالتطورات السلبية في ليبيا التي تقع، تاريخياً، خارج النطاق التقليدي للنفوذ الفرنسي، ما يُفسّر بالتالي الرهان الفرنسي المتهوّر على الانتخابات الليبية. فسواءً نجح هذا الرهان أم لا، فإن من شأنه أن يؤدّي إلى توسيع التأثير الفرنسي في أراضٍ لم يكن لفرنسا وجودٌ فيها من قبل.

إحدى الظواهر الأساسية التي يجب التنبّه لها هي أن كبار اللاعبين الفاعلين الأوروبيين في ليبيا يواجهون خطر صعود الحركات القومية داخل بلدانهم، في حين أن القوى العربية الرئيسة المتورّطة في ليبيا ازدادت سلطوية. وهذا يعني أن السياسة المعتمدة تجاه ليبيا ستصبح عدوانية باضطراد وأكثر اندفاعاً خلف المصالح الشخصية، ما يمنح زخماً للفرقاء المحليين الذين يسعون إلى فرض هيمنتهم. لا يحمل هذا المزيج أخباراً سارّة لمستقبل البلاد، فالتداعيات المتأتّية من التدخّل الخارجي تتسبّب بصورة مستمرة في تقويض الوجود الليبي ككيان سياسي.

> وسط التقارير عن ظهور الدولة الإسلامية من جديد في سورية والعراق، ما هو وضع هذا التنظيم في ليبيا حالياً؟

- في ما يتعلق بقدرات التنظيم التشغيلية، يصعب في معظم الأحيان الركون إلى التقديرات الليبية، فليبيا هي حلقة ضعيفة في مجال نشاط الاستخبارات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن من الواضح أن الدولة الإسلامية لا تزال قادرة على تنسيق هجمات إرهابية في البلاد. فقد سلّطت الهجمات التي استهدفت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في أيار (مايو) 2018، ووادي كعام أخيراً، الضوء على أنه لم يتم بعد القضاء على التنظيم.

وفي حين يتحدّث كثرٌ عن «مرحلة ما بعد الدولة الإسلامية» في ليبيا، لا بد من الإشارة إلى أن الأسباب التي كانت وراء صعود الدولة الإسلامية، لا تزال قائمة، عموماً، في البلاد، وتشمل ضعف الحوكمة، والعجز عن التنسيق مع المنظمات والمؤسسات الدولية، ورداءة الإمكانات المطلوبة لضبط الحدود. بغية الالتفاف على هذه التحديات، ركّزت الاستراتيجيات المعتمدة لمحاربة الدولة الإسلامية، بصورة شبه حصرية، على الأمن (مثل الاستراتيجية التي تطبّقها القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا)، ما يحول دون اعتماد مقاربة أكثر شمولاً للتعاطي مع التنظيم وسائر التنطيمات الإرهابية. القوى التي شاركت في عملية «البنيان المرصوص» عام 2016، والتي أسفرت عن طرد تنظيم الدولة الإسلامية من سرت، أُصيَبت بالخيبة بسبب غياب الدعم الحكومي والاعتراف الدولي، لا سيما في ضوء سقوط 700 قتيل في صفوفها معظمهم من مدينة مصراتة. وقد شكّل ذلك سابقةً تبيّن من خلالها أن أي عملية لمكافحة الإرهاب تُشَنّ ضد الدولة الإسلامية سوف يترتب عليها، في أغلب الأحيان، ثمنٌ يتكبّده الطرف المعني عبر إضعاف مكانته العسكرية من دون أن يكتسب بالضرورة أي نفوذ. كذلك تُشكّل المظالم، ونقاط التفجّر، والتهميش، ووجود تنظيمات إرهابية أخرى في مواقع مجاورة، أدواتٍ تستطيع المجموعات استغلالها لتعزيز نفوذها في ليبيا. لذلك لن يكون صعود الدولة الإسلامية من جديد أمراً مفاجئاً.

> كثُر الحديث عن النفوذ المتنامي لخليفة حفتر في شرق ليبيا. هل ثمة حظوظ جدّية بأن يظهر في موقعٍ يجعل منه رجلاً قوياً جديداً في البلاد، وهل سيتمكّن من بسط سلطته في غرب ليبيا؟

- قد يكون من المجدي الإجابة عن هذا السؤال بعيداً من الاهتمام المفرط الذي يتم إيلاؤه للشخصيات، والذي هو أمر شائع جداً في السياسة الليبية. لهذه الغاية، يجب أن نطرح السؤال: ما هي الخصال التي تجعل الشخص مؤهّلاً لأن يُنظَر إليه بأنه شخصية وطنية في مثل هذه البيئة الاستقطابية؟ لقد وجدتُ، من خلال الأحاديث التي تبادلتها مع ليبيين من مختلف مشارب الحياة، أن الغالبية الكبرى منهم تعتبر أن الحلول السياسية الفضلى هي تلك التي تقوم على إقصاء أعدائهم المتصوَّرين. وقد ساهم حفتر في الترويج لهذا الخطاب، ما يشكّل، برأيي، عائقاً أمام قدرته على أن يصبح رجلاً قوياً على المستوى «الوطني». وعلى رغم أنه ربما ساهم تعاون حفتر مع الإمارات ومصر، وأخيراً فرنسا، في تعزيز شرعيته على الساحة الدولية، فإنه سيكون من الصعب عليه، بعدما انتقل احتكار استخدام العنف إلى المجموعات المسلحة المحلية منذ عام 2011، ما تسبّب في إحداث شرخ، أن يفرض سيطرته على قدر كافٍ من الأراضي لإرغام هذه المجموعات على القبول به قائداً، لا سيما في غرب ليبيا. لهذا السبب، اختار حفتر اللجوء إلى المناورات السياسية التي تُحدث خللاً في الوضع القائم هناك، ومنها مثلاً تسليم الموانئ النفطية إلى شركة نفطية وطنية تتخذ من شرق ليبيا مقراً لها، وفق ما ذكرت آنفاً.

> ثمة دلائل تؤشّر إلى تشدّد بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها إيطاليا، في موقفها من قبول المهاجرين الآتين من أفريقيا. ما تأثير ذلك في ليبيا؟

- لقد مارس صعود الحركات القومية في الكثير من الدول الأوروبية، مقروناً بتسييس التغطية الإعلامية للهجرة، تأثيرَين اثنين. أولاً، اضطُرّ السياسيون إلى استمالة المتطرّفين في أحزابهم السياسية، وثانياً، اتّصف النقاش حول الهجرة بالنشاز والتنافر في الاتحاد الأوروبي. فعلى رغم التفاوت في أنماط تعرُّض بلدان الاتحاد الأوروبي إلى حركة الهجرة الآتية من ليبيا أو التي تمرّ عبرها، إلا أن تلك البلدان أجمعت على اعتماد سياسة ضبط الحدود من الجهة الأخرى – بعبارة أخرى، كبح الهجرة على مقربة من الأراضي الأفريقية – والتي غالباً ما تتم على حساب حقوق الإنسان. وقد جعل ذلك من ليبيا والطريق المتوسطي المحوري الذي يقود إلى أوروبا الموقعَين الأساسيين، حيث تُطبَّق السياسات الموقتة التي تنتهجها إيطاليا والاتحاد الأوروبي للحد من عبور الأشخاص في البحر، والتي غالباً ما تنجم عنها تداعيات كارثية.

لقد تسبّب الموقف الأوروبي في تحويل عمليات التهريب ومكافحة التهريب على حد سواء، إلى تجارة تدرّ أرباحاً طائلة. وأتاح تشوُّش الخطوط الفاصلة بين المجموعات المسلحة، وخفر الساحل الليبي، والمهرّبين، لهذه الشبكات بأن تُحقق كسباً مادياً نتيجة إدارة مراكز الاعتقال غير القانونية، واعتراض المهاجرين في البحر أو اليابسة، وابتزازهم، وتهريبهم. لقد أمّن الأوروبيون تدريبات ومعدّات لخفر السواحل، في حين أن قائد إحدى وحدات خفر السواحل الأكثر نشاطاً في اعتراض المهاجرين، خضع أخيراً لعقوبات فرضها عليه مجلس الأمن الدولي على خلفية تواطئه في تهريب أشخاص إلى أوروبا. كذلك عمدت الحكومة الإيطالية إلى تجريم بعثات الإنقاذ التي تنفّذها منظمات غير حكومية في المياه الدولية. وعلى رغم أن هذه التدابير ساهمت في خفض أعداد المهاجرين الوافدين إلى أوروبا، إلا أنها تسبّبت في زيادة معدلات الوفيات في عرض البحر. كذلك أظهرت الصدامات الدائرة في طرابلس أن ليبيا ليست آمنة على الإطلاق للمهاجرين، وأتمنّى أن يُحدث ذلك صحوة في الدول الأوروبية ويدفع بها إلى تغيير سياساتها على هذا الأساس.

> كيف هي الحياة اليومية في ليبيا بالنسبة إلى مَن يعيشون هناك، وأنت منهم؟ ماهو الاتجاه الذي ستسلكه البلاد في رأيكم خلال العقد المقبل؟

- تطرح عليّ هذا السؤال في لحظة لافتة، بعد سقوط صاروخ «غراد» على مسافة أمتار قليلة من منزلي خلال الصدامات الأخيرة في طرابلس. لحسن الحظ، لم يُصَب أحد بأذى، لكنني أعتقد أن تلك الواقعة كشفت أن الحياة اليومية في ليبيا هي وقوفٌ دائم على حافة الخطر. فإذا لم يكن الشخص مهدَّداً في سلامته الجسدية، قد يكون عرضةً للتوتر النفسي الناجم عن عوامل مثل التضخم وانعدام الأمان واللااستقرار، التي ترزح البلاد تحت وطأتها. أعمل في مجال التنمية، لكنني أيضاً ناشط يرفع الصوت عالياً، وهذا الأمر تحوّل إلى مصدر خطر إضافي في الأعوام الأخيرة. أستمدّ متنفّسي من خلال لقاء شبان يُفكّرون بالطريقة نفسها في مختلف أنحاء البلاد، ويتشاركون شغف التغيير ويندفعون إلى أداء أدوار قيادية. لكن غالباً ما نقول مازحين إننا لا نتمكّن من اللقاء إلا خارج البلاد، وهذا مؤشر سيئ إلى مستقبل ليبيا. يصعب أن نتكهّن إذا كان العقد المقبل سيحمل تغييراً إيجابياً. أنا مجبَر على أن أكون متفائلاً، لكن المستقبل يبدو قاتماً في اللحظة الراهنة.

النصّ ينشر مع موقع «ديوان» التابع لـ «مركز كارنيغي للشرق الأوسط»