& عبد الرحمن شلقم

&

الولايات المتحدة، تاريخها وجغرافيتها وتكوينها الاجتماعي، جعلوا منها كياناً فريداً في كل شيء، في السياسة والاقتصاد واللغة والبناء، وكل أنماط الحياة، كل العالم هناك.
مهاجرون من كل أنحاء الأرض اندفعوا إلى العالم السحري المكتشف؛ لكن الاكتشاف الجغرافي للقارة أعاد إنتاج الجميع: الناس والأرض والحياة. أوروبا التي شرعت في مغادرة ثقل العصور الوسطى، بقوة ثورة العلم وبزوغ أضواء التنوير، وانطلاق العقل من قمقمه، وتحول المذهب البروتستانتي إلى منهج في التفكير وسلوك في الحياة، أعادت إنتاج ذاتها هناك. صارت الأرض الجديدة حقلاً زرع فيه الإنسان القادم بذور عقل يافع. الثورة الصناعية الوليدة وما سبقها ورافقها من ثورات فلسفية، كانت زاد القادمين إلى الدنيا الموعودة.


تدفق الهاربون والحالمون من كل أصقاع الأرض. ثار الأحفاد على أجدادهم المستعمرين، بعد المواجهات مع أهل الأرض البسطاء. حرب الاستقلال التي خاضها القادمون مع أجدادهم البريطانيين، شكلت حلقة في تكوين الهوية الجديدة للمجتمع الأميركي، سياسياً وثقافياً، ورسمت خطوط وآليات العقل السياسي الأميركي. الدستور كان المعركة التي أنتجت النظام السياسي الفريد للدولة الأكبر والأكثر قوة في العصر الجديد. بعد جولات طويلة ومتعددة من النقاش بين ممثلي مختلف الولايات، ولد الدستور الذي كتبه العقل الجديد. لم ينسخ الوثائق الدستورية الأوروبية؛ لكنه استمد مسار قيم الحرية من نظريات الفلاسفة الإنجليز: جان لوك، وتوماس هوبز، وإدوارد كوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
النظام الاتحادي الذي منح سلطات واسعة للولايات، والحقيقة أنها دول متحدة وفقاً للغة الإنجليزية (states) وليست ولايات، حرص الأتراك على ترجمتها إلى ولايات، كي لا تثير مشاعر البلدان التي تحتويها الإمبراطورية العثمانية. النظام الفيدرالي الذي اختاره المؤسسون، كان هو الخيط الذي رأى واضعو الدستور أنه قادر على نظم الكيانات المتعددة الكبيرة، الدول المتحدة. التعددية الموصوفة، اللامركزية المترابطة عبر جسم تشريعي مكون من جناحين، هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ المنتظمان في كيان واحد هو الكونغرس. سلطة تنفيذية على رأسها رئيس الدولة الذي يقود الجهاز التنفيذي بكل مكوناته؛ لكنه يخضع لرقابة واسعة من الكونغرس. تلك كانت من بنات وأبناء أفكار صانعي الدستور، وعلى رأسهم الشاب الحكيم، ماديسون، الذي قال: «إذا كان الناس ملائكة، فلن تكون هناك ضرورة لوجود الحكومة، وإذا كان الملائكة سيحكمون الناس، فلا ضرورة لرقابة داخلية أو خارجية عليهم. المشكلة الكبيرة تكمن هنا. يجب أن نجعل الحكومة تراقب الحكومة. وفي المقام الثاني أن تحاسب نفسها». إذن الكونغرس يشارك في الحكم من خلال التشريعات، وفي الوقت نفسه يراقب الأطراف الحاكمة، بمن فيهم الرئيس.


جيفرسون وماديسون اللذان ساهما بقوة في صناعة الدستور، كان هاجسهما الحرية والمحاسبة والرقابة، وتوازن توزيع السلطة بين الدول الأميركية المتحدة. الجميع موجود بتوازن في الجسمين التشريعيين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، بكيفية تحقق التوزيع الديمقراطي العادل. لكل ولاية عضوان بمجلس الشيوخ، بغض النظر عن عدد السكان، أما مجلس النواب فيكون التمثيل فيه حسب عدد السكان. الفقرة الثامنة عشرة من المادة الأولى في الدستور، أعطت الكونغرس سلطات واسعة، من حيث التشريع وتقرير مسارات الحياة في مختلف المسارات. الفقرة الأولى من المادة الثانية: أن تكون للرئيس السلطة التنفيذية بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته.
منذ قيام الكيان الجديد، بدأت حساسياته السياسية والتجارية مع العالم الآخر. الحرب مع القراصنة في شمال أفريقيا، حربه الأولى مع الحاكم القره مانلي في ليبيا، والحروب التجارية مع بريطانيا، والحياد في المواجهة بين نابليون وبريطانيا.
الرئيس الأميركي ترمب، بسياساته وصوته الحاد الصارم، فيه التاريخ الأميركي بكل أطيافه، وتنويعات التكوين الدستوري للأمة الأميركية المؤلفة من كل أصقاع الدنيا؛ بل نلمس فيه بصمات كثير من رؤساء أميركا السابقين، الجمهوريين والديمقراطيين. حاربوا على جبهات متعددة ومختلفة في الداخل والخارج. ترمب الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة، هناك من وصفه بالمتهور والعنصري وقليل الخبرة السياسية، وبأنه ليس سوى رجل أعمال يقيس كل الأمور بالربح المالي، ويتخذ من الصدام منهجاً لإدارة علاقاته مع الجميع في الداخل والخارج. قد يكون كل ذلك أو بعضه صحيحاً؛ لكن لو ألقينا بعض الأضواء على سابقيه من الرؤساء، لأمكننا القول: إنه وليد أميركا القديمة الجديدة. هذه الإمبراطورية التي تختلف عن كل ما سبقها من الإمبراطوريات في التاريخ. لا امتداد احتلالياً لها خارج أرضها، تضم شرائح اجتماعية من كل بقاع الأرض، وهي بذلك إمبراطورية في داخلها، بحكم التكوين البشري المتعدد والمتنوع، إضافة إلى قوتها العسكرية والمالية غير المسبوقة. أميركا فيها التكوين الإمبراطوري في الداخل والخارج. الدستور الأميركي يجعل الرئيس إمبراطوراً له سلطات واسعة في كل مضارب الحياة؛ لكنه في الوقت نفسه تراقبه عيون الكونغرس، وتحاسبه على كل ما يقرر. في الكونغرس توازن محسوب بدقة، يجعل من الحكم كما رأينا في مواد الدستور، حلقات متداخلة تجعل القوى تحكم القوة.


الإعلام، الآلة التي تكشف كل مستور. وكل مسؤول له عورات وعثرات تنشرها وسائل الإعلام على حبال ممتدة فوق مساحة البلاد. القانون الحديد الذي يفلُّ كل تجاوز، ولا رحمة لمن تجاوز القانون مهما كان موقعه أو قوته.
نستطيع أن نقول: إن الرئيس ترمب أعاد تحريك كل مكونات المجتمع الأميركي بهزات عنيفة، عبر السياسات والكلمات. النزعة الوطنية المتشددة وسَّعت دائرة مريديه وليس أتباعه. طبقة البيض رأوا فيه زعيماً لهم، والطبقات الأخرى اعتبرته تحدياً. رجال الأعمال منهم من أيده بعنف، وآخرون عارضوه، ومن وقف بين الحالتين. موقفه المتشدد من الهجرة جلب له أنصاراً كثيرين، في الوقت الذي فتح فيه أبواباً لآخرين إلى الكونغرس. معاركه الخارجية تعبير عن لغة الذراع الإمبراطورية التي رافقت الولايات المتحدة منذ قيامها. الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي لم يتردد في أن يضع العالم على حافة الهاوية، أثناء أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، وكذلك في أزمة برلين. رونالد ريغان أحد الرؤساء الذين يعتبرهم أغلب الأميركيين من رموز الوطن، خاض حرباً من دون نيران مع الاتحاد السوفياتي، وكذلك الرئيس نيكسون في حرب فيتنام. الرئيس ترمب قام بأكثر من انقلاب في الداخل والخارج بطرق شتى. اللغة التي دأب على استعمالها غير مسبوقة، إذ يستفز الجميع بأسلوب مباشر لإقناع دبلوماسي محسوب فوقه. يصطدم مع الحلفاء ومن يعتبرهم أعداء. لا يتردد في عزل أي من معاونيه لا يتبعه طائعاً منفذاً. وصل إلى العامة عبر تصريحاته النارية اليومية، وكتاباته المتواصلة على «تويتر» الذي يتابعه عشرات الملايين. لقد نجح في تأسيس مدرسة الانقلاب السياسي، الذي جعل من السياسة مادة يستهلكها الناس، بعدما كانت وجبة لقلة من النخب السياسية والإعلامية ورجال الأعمال.


نتائج الانتخابات الأخيرة التي أعطت الأغلبية للحزب الديمقراطي بمجلس النواب، ووسعت الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ، هي انعكاس حي لمنهج ترمب السياسي، الذي سيكون له مفعول لسنوات قادمة في محافل السياسة الأميركية. سياسة «الأكشن»، على طريقة الأفلام التي يعشقها الجمهور الأميركي.