فهد الدغيثر&&

خرج بيان النائب السعودي العام قبل يومين، ليشرح قصة وفاة المرحوم جمال خاشقجي، مستنداً إلى التحقيق مع المتهمين.


شعر المواطنون السعوديون بنوع من الراحة، ليس فقط بسبب البيان وسرعة التحقيق وانتهاء فترة المجهول بكل تقلباتها، وهي تحدث للمرة الأولى أمام الجيل المعاصر، بل أيضاً لتوافر النوعية والاحترافية التي تجلت في تفاصيل التحقيق وكشف أخطاء كارثية مؤسفة ارتُكبت.

من هنا، يُفترض أن يشعر العقلاء، حتى خارج المتحدثين بالعربية، بقرب طيّ هذا الملف. غير أن البعض لم يفعل، ويستمر حتى اللحظة بالصراخ بشتى نغماته التعيسة. السبب أن قضيتهم ليست معرفة ما حدث وكيف حدث ولماذا؟ من منطلقات مبدأية وأخلاقية. قضيتهم هي كيف يمكن إلحاق أكبر الأذى بقائد سعودي شاب مقدام، يملك كاريزما لافتة محلياً ودولياً، ولديه رؤى مختلفة تماماً نحو الغد. قضيتهم تتمحور حول تعطيل طموح السعودية وإفساد قيادتها الميدانية في مواجهة الأطماع الفارسية - الإخوانية. كيف نتركه يتحرك وسبق أن قالها بنفسه وبكل وضوح، بأن ثلاثي محور الشر في منطقتنا يكمن في إيران والجماعات الإرهابية وجماعة الإخوان المسلمين والمرتزقة من الراديكاليين الذين اتخذوا من تركيا مقراً لهم، بعدما لفظتهم معظم الدول العربية. لذلك، أتت نهاية ملف القنصلية السعودية في إسطنبول بالطبع صادمة ومخيبة للآمال، على رغم تسريبات ولف ودوران وحيل وتجسس على المقرات الأجنبية ذات السيادة.

نعم، هناك تعليمات سعودية لأجهزة الأمن بمحاولة إعادة أي مواطن سعودي يفرّ إلى الخارج، ثم يتحول إلى عامل هدم ضد بلاده، خصوصاً من يقبل التعامل مع الأعداء ويستقبل أموالهم وينفذ أجنداتهم. كل الدول العظمى تفعل ذلك، ونسمع ونقرأ الكثير من الأحداث المرتبطة بهذه السياسات. بعض المحاولات ينجح وكثير منها يفشل. المملكة تحديداً، حتى مع وجود هذه الأوامر، تُعتبر قليلة الخبرة مقارنة بأجهزة استخباراتية عريقة مثل «الموساد» الإسرائيلية و«كي جي بي» الروسية و«سي آي أي» الأميركية. نستدل بهذا القول بالأوامر الملكية التي صاحبت الإعلان عن هذه الجريمة في القنصلية. من أهم هذه الأوامر إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات السعودية، ليواكب التحديات المعاصرة. من هنا يجوز لنا أن نرى هذا الوضع من زاوية حميدة، على «سوأة» ما حدث، وهي أن السعودية حديثة الخبرة في عمليات كهذه، بسبب التحام الشعب بقيادته وشعوره بالأمن والطمأنينة منذ أن تأسست الدولة السعودية الثالثة التي نعاصرها اليوم.

ولمناسبة الإشارة إلى تلاحم الشعب السعودي مع الحكومة، أظهرت هذه القضية مشهداً لا يمكن لأيّ سعودي متفائل أن يتوقع رؤيته بهذه الصلابة والتصميم، إذ سيطر السعوديون على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمكنوا من إفساد الكثير من مزاعم وأكاذيب المنابر المعادية في صورة أذهلت العالم. حاولوا توظيف التسريبات ورمي الاتهامات، ولم تؤثر كما كانوا يأملون.

كان المواطن السعودي، ومنذ وقوع الحدث، على درجة عالية من التوجس حول ما يتم تسريبه ونشره. ساهم في ذلك أيضاً موقف الحكومة السعودية الحاسم، عبر بيانات سابقة عدة صدرت من النائب العام وأغلقت الكثير من النوافذ المصطنعة. على أن قوة تماسك الشعب السعودي وتفانيه في الدفاع عن وطنه تجاوزت حدود الوطن والمنطقة. لم تتمكن كبريات دور الإعلام الغربي قبل أيام على سبيل المثال، من تجاهل الدعوة السعودية عبر المواقع الإلكترونية إلى مقاطعة شركة «أمازون» العملاقة التي يملك غالبية أسهمها الأميركي جيف بيزو، وهو الذي اشترى غالبية أسهم صحيفة «واشنطن بوست» قبل عامين. مثل هذا الوعي لم يكن ليتحقق لولا فطنة المواطن السعودي وحرصه على وحدة كيانه.

كمواطن، مقتنع تماماً حتى قبل خروج البيان بألا دخل على الإطلاق لأيّ مسؤول قيادي في الدولة بالنهاية المأسوية التي حدثت. كيف يمكن تفسير وجود فريق بهذا العدد والتخصصات لو أن المهمة تصفية المرحوم، لا إحضاره إلى المملكة حتى لو بالقوة؟ هل يحتاج الاغتيال إلى أكثر من مسدس أو طعام مسموم وبضع دولارات، ويتولاه فرد في الخفاء وربما عن بُعد؟

لعلنا نتذكر تغريدة كتبها المستشار السابق في الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، في بداية تسريب الأخبار التي ناقضت رسالة رئيس الفرقة السعودي المضلل الذي زعم أن المرحوم خرج من القنصلية ولم يكن المستشار وقتها مصدقاً وكان يتهكم بخبر الوفاة.

المشهد الذي أمامي وبكل وضوح، أنه يوجد «بلدوزر» هائل ظهر فجأة في الصحراء ورسم له طريقاً وبدأ يتحرك للأمام في مسار محدد. أثار هذا المشهد الملفت البعض، فدفع بعرباته الصغيرة الخشبية المتهالكة التي تجرّها الحمير لتقترب من الآلة الضخمة في محاولة لإيقافها وتعطيلها. أنفقوا بليوناتهم الفاسدة لتزيين الحمار والعربة وتعظيم قدراتها، ووضعوا فوقها مكبرات الصوت، واستضافوا «الفرسان» المأجورين وقلدوهم الأسواط لضرب الحمار، وتمّ طلاء خشب العربات بألوان الطيف واقتربوا فعلاً، لكن البلدوزر لم يلتفت ولم يتوقف. المرعب لهم اليوم هو اقتراب لحظة دهس هذه العربات وتحطيمها تحت العجلات الحديدية.

ختاماً، نترحم على روح الصديق لأكثر من عقد من الزمان، جمال خاشقجي (أبي صلاح) ونقدّم لأبنائه وبناته وأهله وذويه خالص العزاء والمواساة.

&