& &عبدالله العوضي

التسامح الذي يحتفل العالم به اليوم هو من صفات التسامي عن نواقص النفس البشرية. والبحث عن كمالها. فهو سلوك يرفع من شأن المجتمع إلى الترقي في سلم الحضارات الإنسانية ومن متطلباتها وشروطها «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس»، بل أحياناً المتسامحين مع الحيوان، وهذا يظهر في تجربة «أنشتاين» صاحب نظرية الجاذبية التي لم تستغن عنها البشرية، جلس «أنشتاين» على مكتبه خمس سنوات يؤلف في كتاب مهم في علم الفيزياء الكونية، وفي منتصف إحدى الليالي الباردة وهو منغمس في المراجعة الأخيرة لكتابه القيم قفزت قطته المفضلة على الطاولة ملاعبة رفيقها، فأخذت معها أثناء قفزتها الشمعة التي كانت تضيء ليلته العلمية، لتحرق له جهد السنوات الخمس السمان، فوقف أمامها ناظراً إليها، وهي لا تدرك جريرة سلوكها الفطري تجاه ما جنت على صاحبها العالم بقيمة ما ضاع من عمره، فتأمل قطته محدثاً نفسه عن نوع العقاب الذي تستحقه ففكر في قتلها كما أحرقت له عمل سنين عدداً.


إلا أنه مع طول تفكير ومزيد من التأني في رد فعله تجاهها أدرك أن قتلها لن يعيد إليه الكتاب المحروق، فقرر تأليف كتاب أفضل مما كتب واحترق، فسامح القطة وحافظ على رفقتها وحقق ما أراد التوصل إليه في فترة زمنية أقل مما سبق فهذه من ثمرات التسامح، فهل لنا الاعتبار من مملكة الحيوان والاستفادة منها في دنيا الإنسان. دخل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرم وجهه والمكنى بباب العلم- داره وجد خادمه أو «عبده» مستلق على بطنه في صحن البيت لاهياً ومصفقاً برجليه، وأبا الحسن ينادي عليه، وهو لا يبالي لا مرة ولا مرات، فهو في سهو غيه سادر فلا حس ولا خبر.
فنادى عليه علي قائلًا: يا غلام.. أو كلما احتجتك عاقبتك، فاذهب فإنك حر لوجه الله، فلا حاجة لي بك بعد اليوم.
أسمعت عن هذا الخلق الرفيع تجاه المخطئ أو المقصر عامداً، هذا الأصعب من صلاة ركعتين لا تدرك خشوعها ولا التركيز فيها، فهذا الذي كان يدعو به المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كلما نظر إلى المرآة «اللهم حسن خُلُقي كما حسَّنت خَلْقي» إنه تحد بالأخلاق التي لا تطيقها إلا النفوس التي جُبلت على التسامح والتفاني.


وعدم التسامح له تكاليف مادية وعملية قد لا يخطر عواقبه على بال سالكه، فهذا رجل أميركي أسود اللون يجلس في مقهى «ستار باكس» دون أن يطلب شيئاً بانتظار صديق له فرآه أحد العاملين فطرده أمام كل من حوله بطريقة عنصرية فجة، فاشتكى أمره إلى السلطات المعنية فشهد كل البيض لصالحه، فكان ذلك سبباً مباشراً لقيام صاحب الشركة أولا بتغيير بعض قوانين العمل لديها وجعلها أكثر تسامحاً مع الزبائن الذين يجلسون في المقهى بغير غرض الشراء، بل وأكثر من ذلك فقد عطل العمل لأيام في جميع فروعه لكي يدخل موظفيه في دورات تدريبية لتعليمهم سبل التسامح مع الآخرين، ولو كانت لديهم مواقف فردية عنهم وقد كلف كل ذلك صاحب المال ملايين الدولارات، ولو رفع الأمر إلى القضاء لوصلت خسائره إلى المليارات، هذا إذا لم تغلق الشركة الأم نهائياً، هكذا غلب التسامح آفة العنصرية البغيضة.


فالإمارات من الدول التي استبقت الكثيرين في سن قوانين وتشريعات خاصة لمحاربه جذور وبذور الكراهية والعنصرية تجاه كل من تُسول له نفسه التفكير في الإساءة إلى أي ساكن في هذا الوطن المتسامح مع الآخر من وجود هذه التشريعات، ولم تلك القوانين إللا لضمان سبل الاستقرار النفسي لكل من يقطن أرض هذه الدولة التي احتوت بنهجها المتسامح أكثر من مائتي جنسية تعيش بسلام وأمان ودون أن يعكر صفوها عنصرية اللون أو الجنس أو الدين والطائفة. وعلى هذا الأساس قامت الدولة من الناحية السيادية بتخصيص وزارة متكاملة لصناعة سلوك التسامح عبر العمل الدقيق والدؤوب، حتى لا تصبح عملية التسامح فقط سلوكاً فردياً بحتاً، وتترسخ عملاً مؤسسياً أدوم وأشمل وأثره على المجتمع أكمل.

&

&