أحمد مغربي

عندما تشتد صلابة جسد رياضي، يقال إنه صار كالصخرة. ولا شيء أقرب إلى الصخور من المياه التي يستطيع تدفقها أن يفتت أعتاها، وفق وصف شائع في الأدب العربي. من الرياضة، كانت بداية العالم العراقي- السويدي نظير عباس الأنصاري (مواليد بغداد 1947). وجذبته الصخور في شبابه، ثم مال عقله إلى الماء في التخصص العلمي الذي تحتل السدود مساحة كبيرة فيه. وأي شيء كالسدود يستطيع أن يربط الصخر بالماء؟

كانت بغداد هي البداية. الأب الحريص على تعليم أولاده وعلى محبتهم للرياضة أيضاً، يؤسّس أسرة شغوفة بالعلم، سيخرج منها اختصاصي في طب الأطفال، ومُدَرِّسة جامعية، إضافة إلى نظير: المختص في المياه والسدود.

في الخمسينات من القرن العشرين، لم تكن الجيولوجيا اختصاصاً مشهوراً. واختارها نظير المتفوق في مدرسة أميركية في منهج التعليم الثانوي (دخلها أصلاً بفضل تفوّقه في الدراسة الابتدائيّة)، لسبب فائق البساطة: قريبة من البيت! من كان ليحدس آنذاك بأن ذلك الخيار سيبعده عن البيت، بل الوطن بأكمله، في الجغرافيا والزمن؟

وبذكاء، تنبّه الأنصاري إلى ضرورة ربط التخصص العلمي بحاجة الناس والمجتمع. وإذ لاحظ أن الجامعة ليس فيها سوى أستاذ عراقي واحد في الجيولوجيا (المرحوم د. عباس البغدادي)، قرّر متابعة التخصص إلى درجة الدكتوراه في ذلك العلم. ولم تجر رياح السياسة المتقبلة بشدة في تلك الأيام وفق الأماني العلمية للأنصاري. فقد توقَّفت البعثات التخصصيّة إلى الجامعات الغربية. وبانتظار زمن أفضل، عمل الأنصاري معيداً في الجامعة بدوام جزئي، متابعاً دراسته لنيل درجة الماجستير التي نالها في فترة قصيرة نسبيّاً. ومع بداية عقد السبعينات من القرن العشرين، انفتح باب التخصص العلمي في الخارج مجدداً. وراسل الأنصاري عشر جامعات. ومرّة أخرى، اختار تخصصه بالتوافق مع مدى الحاجة له في العراق. ماذا أكثر أهمية من الأنهار وحركاتها وترسباتها وصخورها وسدودها في بلاد الرافدين، التي يعيش التاريخ والجغرافيا والاجتماع والثقافة فيها على إيقاع المياه المتدفقة في نهري دجلة والفرات؟

نهر في اسكتلندا... سد في حمرين والموصل

في ظل تلك الأفاق، قصد الأنصاري جامعة «دندي» في المملكة المتحدة كي تكون المركز الذي يحضر فيه أطروحة الدكتوراه. وانصبت بحوثه لنيل تلك الدرجة على نهر في اسكتلندا كانت الجامعة مهتمة بدراسة حركة الرســـوبــيات فيه، وتأثيرها على سد مشيّد عليه. ومرّة أخرى، سجَّل الأنصاري رقماً قياسيّاً في سرعة إنجاز ذلك البحث الأكاديمي، وكذلك تميز بأن أجرى بحوثاً خارج رسالة الدكتوراه أيضاً عن موضوع الموارد المائيّة. وهذه المرّة، حملته المياه مرّة أخرى إلى بلاد الرافدين، بعد أن نال الدكتوراه في 1976.

واجه الأنصاري صيغة أخرى من «المواجهة» مع تيارات السياسة وأمواجها، إذ انخرط في بحوث علميّة معمقة عن الموارد المائية استمرت قرابة عقدين. وفي المقابل، اقتصر تمويل تلك البحوث على جامعة بغداد، وفق توجّهات سياسيّة. ولم يكن التمويل مشكلة وحيدة، بل برزت مشاكل مؤلمة أخرى من بينها وجود «من ليس لديهم القابلية ولا القدرة على البحث العلمي، لكنهم يحاولون دوماً الوقوف بوجه كل من يجد في البحث العلمي، بل يفتعلون المشاكل للبحَّاثة»، وفق كلمات الأنصاري.

وفي المقابل، وجد الأنصاري سنداً في الأصدقاء والعائلة، خصوصاً الأب الذي أنفق بسعة على دراسة ابنه صغيراً (تذكير بأن «المدرسة الأميركيّة» تتبع القطاع الخاص)، ولم يتوقف عن دعمه حتى اللحظة الأخيرة. وعلى رغم تلك الصورة المضطربة، استطاع الأنصاري أن ينجز بحوثاً معمقة عن موارد مائية وخزانات جوفيّة وسدوداً متنوّعة في العراق. شمل الأمر دراسات رسوبيّة عن خزان «سد حمرين»، ودراسات موسّعة عن سد الموصل الذي يوصف بأنه من الأخطر عالميّاً. وفي تلك الفترة عينها، عمل على تأسيس «الجمعية الوطنيّة للموارد المائية»، إضافة إلى نيله عضوية «البرنامج الهيدرولوجي الدولي».

ليس بالسنوات وحدها يكون العلم

عادت السياسة إلى أداء دورها، إذ تدهورت الأحوال في العراق إلى حد بات لا يطاق. واضطر الأنصاري إلى العمل في المملكة الأردنية الهاشمية، تحديداً في «جامعة آل البيت» التي يشرف عليها الأمير الحسن بن طلال. وطلب الأمير منه تأسيس وحدة بحوث استراتيجيّة للبيئة وموارد المياه. وكذلك أتاح العمل في الأردن للأنصاري الحصول على تمويل خارجي. وانخرط في عشرات المشاريع البحثية التي نالت تمويلاً من مؤسّسات عالميّة كـ «البنك الدولي» و «الاتحاد الأوروبي» و «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» و «مجموعة الدول الـ77» ومنظمة الـ «يونيسكو» والمركز الثقافي البريطاني وغيرها.

في تلك الفترة، نال جائزة «أفضل 5 علماء» التي يمنحها المركز الثقافي البريطاني. وعلى رغم أنها كانت مرحلة غنية وزاخرة بالتجارب، إلا أنها لم تخل من المنغصات المعروفة التي «يتميّز» بها العالم العربي، خصوصاً «تدخلات من لا يعرفون معنى البحث العلمي» الذين يصبحون من العوامل التي تطرد الأدمغة العلمية من بلاد العرب إلى الغرب.

عند تلك النقطة، حملته المياه إلى الغرب مجدداً. وفي العام 2007، غادر إلى أوروبا عازماً على الاستقرار فيها. ونال مرتبة بروفسور من «جامعة لوليو للتكنولوجيا» التي مازال يعمل فيها. وتقدّم الجامعة لبحوثه دعماً سخياً، يضاف إلى بعض التمويل الذي يأتي من خارجها. وعلى رغم قِصَر المدة التي قضاها في السويد نسبيّاً، أقله قياساً بالعقود الكثيرة لعمله في العراق والأردن، إلا أنّه أنجز فيها أكثر من كل ما سبقها.

وحاضراً، يحوز الأنصاري 353 بحثاً علمياً منشوراً في مجلات مرجعيّة محكمة عالمياً. واستطاع تأليف 13 كتاباً في موضوعات تخصصه. ولا يزال يعمل على كتاب أنجز منه 6 فصول. وفي عرفان ممتن، يورد أن زوجته شكّلت سنداً أساسياً في مساره العلمي المتقدم. ولأنها تعمل في الجامعة، هي على دراية جيّدة بمعنى البحث العلمي ومتطلباته.