&سليم نصار&

في حديث ملفت أجراه مراسل «سي إن إن» مع بنيامين نتانياهو، عبّر رئيس وزراء اسرائيل عن مخاوفه من ازدياد الكراهية ليهود اوروبا. ولما سئل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التحول، قال إن الأحزاب المعادية لليهود بدأت تروّج لشعارات الحقد والاستفزاز، الأمر الذي روّع دعاة الاعتدال والتهدئة في القارة الهرمة.


وإدعى نتانياهو أن هذا التيار المعادي لليهود، الذي يمثل نسبة عالية من اللاساميين الجدد، بدأ يجتاح الشارع النمساوي ليصل الى الشارع الألماني. ولم يكن هذا التلميح عصياً على التفسير الذي خصّ به نتانياهو مستشار النمسا سيبستيان كيرز، أصغر حاكم في كل البلدان الاوروبية (31 سنة)!

ويُستنتَج من مراجعة تاريخ التجمع الذي أنشأه كيرز سنة 2017 مع «حزب الحرية» أنه ليس مهتماً بالاتهامات التي وجهت اليه كشريك للنازيين الجدد. كل هذا لأن دوره كوزير سابق رشحه لمنصب القيادة بسبب إقفال حدود بلاده أمام موجات اللاجئين من الشرق الأوسط. كما عزل الجالية الإسلامية، وطلب من أئمة المساجد أن يلقوا مواعظهم باللغة الألمانية. كذلك منع المنظمات الإسلامية من تلقي هبات خارجية، وأمر بإقفال عدة مساجد اتهمها بالتعامل مع جماعة الإسلام السياسي.

المخاوف التي حذر نتانياهو من نتائجها المؤلمة ولدت مع الموجة السياسية الجديدة التي يمكن أن تنبت زعيماً شبيهاً بأدولف هتلر. ولما طرح الصحافيون على كيرز هذه المقارنة، أجاب أن تاريخ الديموقراطية لن يفتح الطريق أمام الأنظمة الدكتاتورية، وأن النمسا التي قدمت الى العالم برونو كرايسكي، لن تكرر ظاهرة النازيين.

وعلى الرغم من محاربة المستشارة انغيلا مركل لحزب النازيين الجدد في المانيا، إلا أن انتشارهم ازداد في برلين وميونيخ وهامبورغ. والملفت أن العراضات التي يقومون بها بين حين وآخر، كثيراً ما يقابلها الجمهور بالتصفيق والهتاف، علماً أن صورة الصليب المعكوف محفورة بالوشم على أذرعهم وأعناقهم العارية.

التقرير الذي نشرته الصحف البريطانية عن أحوال الجاليات اليهودية في الدياسبورا لم يذكر أي سبب يدعم المخاوف التي عرضها نتانياهو. والتفسير الوحيد الذي قدمه التقرير هو أن رئيس الوزراء وزوجته غارقان في لجّة الفضائح والرشاوى المخالفة للقوانين. وهذا ما دفعه الى استغلال ظاهرة اللاساميّة في النمسا والمانيا وفرنسا ليحوّل اهتمام الاسرائيليين عن التركيز على ارتكاباته والدعوة الى محاكمته.

التفسير الآخر الذي قدمه التقرير يشير الى تكرار الخطأ الذي ارتكبه ارييل شارون يوم تولى وزارة الاستيعاب. ذلك أنه شجع يهود الدياسبورا على المجيء الى اسرائيل بهدف إقامة توازن ديموغرافي مع عرب الداخل. وبما أن الجالية اليهودية في فرنسا تضم أكبر عدد من اليهود بعد الولايات المتحدة (650 ألف نسمة)، فقد جرب شارون استمالة أعضائها وحضهم على الانتقال الى الأرض الموعودة.

ويبدو أن التجاوب مع هذه الدعوة كان ضعيفاً جداً بسبب النجاح الاقتصادي والصناعي الذي حققته الجالية اليهودية في فرنسا. وعندما ظهرت النتائج المخيبة لتوقعات شارون، قرر إرهابهم بواسطة «الموساد.» وقد استخدمت أجهزتها لإثارة الرعب والترهيب من طريق نبش قبور اليهود ونسف محلاتهم ومؤسساتهم. والثابت أن الاستخبارات الفرنسية اعتقلت في حينه بعض الفاعلين الذين اعترفوا بأن جهات مجهولة أغرتهم بالمال لكي ينفذوا عمليات التفجير والنسف. ولقد صدم شارون بنشر اعترافاتهم التي ظهرت في الصحف، الأمر الذي أجبره على وقف محاولته الفاشلة.

ويقول زعماء الأحزاب المعارضة في اسرائيل إن رئيس الحكومة يضخم ظاهرة اللاساميّة في اوروبا لأسباب شخصية تتعلق بالفضائح المالية التي تتحدث عنها الصحف. وهو يرمي من وراء كل ذلك حرف اهتمام المواطنين عن ارتكاباته.

هذا الأسبوع كاد لبنان أن يتحول الى ساحة حرب جديدة بعدما إدعت اسرائيل أن «حزب الله» باشر في حفر أنفاق تحت الجدار الفاصل الذي بنته الصيف الماضي. وتوقع المراقبون أن ينفذ نتانياهو تهديده باستئناف تدمير الأنفاق مثلما يفعل في قطاع غزة.

الجيش اللبناني أصدر بياناً أكد فيه عودة الهدوء الى منطقة الجنوب، وأنه عمم حال الاستنفار تحسباً لأي مغامرة اسرائيلية في منطقة الجنوب وغيرها. ويبدو أن قيادة الجيش اللبناني تعاملت بجدية مع تهديد نتانياهو، خصوصاً بعد المناورة الأخيرة التي قام بها الجيش الاسرائيلي وكان عنوانها: «الصدام مع حزب الله.» علماً أن جهات غربية حذرت السلطات اللبنانية من احتمال قيام عدوان اسرائيلي على مواقع لـ «حزب الله» لتدمير ما تقول تل ابيب إنه مصانع صواريخ أقامتها ايران.

لكن صحيفة «هارتس» استبعدت قيام رئيس الوزراء بمثل هذه المغامرة العسكرية التي قد ينجم عنها سقوط عدد كبير من الاسرائيليين ودمار أجزاء كبيرة من المدن والقرى المجاورة للحدود مع لبنان. لهذا السبب وسواه اقتنع نتانياهو بأن ما كسبه في السلم بفضل الرئيس الاميركي دونالد ترامب يجب أن يبقى قاعدة التعامل مع القضية الفلسطينية.

والثابت من سجل الإنجازات التي قدمها ترامب خدمة لاسرائيل أنها أهم من كل الإنجازات التي قدمها الرؤساء السابقون طوال سبعين سنة. وتكمن أهميتها في اختصار الفترة الزمنية لتجريد الفلسطينيين من حلم إعلان عاصمتهم في القدس الشرقية. ذلك أنه استبدل هذا الحلم بتقديم كل القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة اليهود.

ثم تابع ترامب خدماته لاسرائيل بوقف الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (اونروا). وكانت النتيجة أنه حرم 526 ألف طالب فلسطيني من العلم في 711 مدرسة جرى إقفالها. إضافة الى كل هذا سمحت واشنطن لاسرائيل بتطبيق قانون عنصري يدعى «قانون القومية.» وهو قانون وضع نصوصه قاضي محكمة القدس موشيه دروري.

وخطورة هذا القانون أنه يعطي اسرائيل الحق في استعادة كل ما تزعم أنه أرضها التاريخية. وهذا معناه أن كل الضفة الغربية تصبح عملياً «يهودا والسامرة.»

سنة 2014 عرض نتانياهو على إدارة الرئيس السابق باراك اوباما خطة سياسية تقوم على ضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية في مقابل حصول الفلسطينيين على مساحات في شمال سيناء محاذية لقطاع غزة.

لكن اوباما ووزير خارجيته جون كيري لم يستسيغا خطة الحل التي ظهرت هذه السنة بواسطة جاريد كوشنر، صهر الرئيس الاميركي. والسبب أنها تحدد مكان الدولة الفلسطينية فوق قطاع غزة، إضافة الى إلصاق جزء من صحراء سيناء بالقطاع. وقد تبناها ترامب وأطلق عليها إسماً وهمياً هو «صفقة العصر.» لكن ممانعة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أجهضت هذه الخطة التي تضم جزءاً من صحراء سيناء، إضافة الى رفض الرئيس محمود عباس وتمسكه بتطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338.

سنة 1948 أعلن رئيس وزراء اسرائيل في حينه ديفيد بن غوريون أن بلاده وقعت اتفاقات سلام مع ايران (في عهد الشاه) وتركيا وباكستان. والسبب أن الجامعة العربية أصدرت قراراً ملزماً يمنع كل دولة عربية من التعامل مع اسرائيل. لذلك ابتكر سياسة خارجية سماها «القفز فوق الحواجز.»

في القمة العربية التي عقدت في بيروت سنة 2002، قدم الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي في حينه، مبادرة سلام تقول بإسقاط الحظر على اسرائيل إذا أعلنت قبولها قيام الدولة الفلسطينية. وبما أن اسرائيل مصممة على رفض إنشاء دولة فلسطينية الى جانبها لذلك مارست ديبلوماسية التسويف، إن كان مع ياسر عرفات في أوسلو، أو مع محمود عباس خلال مفاوضات عقيمة توقفت بعد إعلان القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل.

أول اختراق سياسي جرى في هذا السياق تمثل بالزيارة التي قام بها شيمون بيريز لقطر. لكن بيريز بقي مقتنعاً بسلام الشرق الأوسط الذي يشارك الفلسطينيون في بنائه. بخلاف نتانياهو الذي زار أخيراً سلطنة عُمان، وعاد الى بلاده ليقول إن الوصول الى المنطقة العربية لم يعد يشترط المرور عبر الجسر الفلسطيني.

ولكن هذا التبسيط لقضية تجاوز عمرها سبعين سنة، ومات في سبيلها آلاف الضحايا، يصعب على نتانياهو استيعاب الدروس التي خلفتها. وآخر درس جاء من القاهرة حيث فشلت جهود المصالحة بين حركتي «فتح» و»حماس». ويرى المراقبون أن المرحلة المقبلة ستشهد اعتزال أبو مازن، وبروز «حماس» مجدداً كقاطرة مؤهلة لحمل القضية الفلسطينية!

&