&محمد السعيدي& &&

الفكر السلفي هو فكر الاجتهاد الموصِل إلى نبذ التقليد والتحذير منه، سواء أكان المقَلَّد من التابعين أم من بعدهم، وسواء أكان من الأئمة الأربعة أم من عاصرهم، فالاتباع إنما هو للدليل لا غير

لم يكن فضل الدعوة السلفية على الجزيرة العربية وحسب، حينما كان العامل الأقوى في توحيدها لثلاث مرات متواليات ليس لهن نظير في تاريخ الجزيرة المكتوب سوى عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وعصر خلفائه الراشدين، وإلى حد كبير عصر بني أمية.
أقول ليس فضل هذه الدعوة مقتصرا على الجزيرة العربية، بل كانت صاحبة فضل عظيم على كثير من الدول الإسلامية، ففي الهند مثلا لم تعرف الثورة لدى المسلمين على الاحتلال البريطاني إلا على يد علماء وأبناء التوجه السلفي، والأمر كذلك في المغرب والجزائر، أو على يد المتأثرين بالمنهج السلفي كما كان الحال في ليبيا.
هذا في الجانب السياسي، أما في الجانب العقائدي والعقلي، فقد كان لها أكبر الفضل في محاربة الخرافة والغلو.


بل أؤكد أنها كانت هي المحرك الحقيقي للعرب والمسلمين نحو النهضة العلمية والأدبية والمدنية، وذلك عبر كسرها سيطرة الفكر الجبري والتصوف الخرافي والتحجر الديني، وهذا الإنجاز أيضا وراء كل تقدم جاء بعده، ولا أكون مجازفا إذا قلت إن الحجج السلفية التي نقضت الفهم الخرافي للإسلام تأثر بها دعاة النهضة من القوميين والوطنيين والأدباء والفلاسفة، حتى أولئك الذين لم يكونوا منتمين للفكر الإسلامي، أو لا يظن بمثلهم التأثر بالسلفية.
وإن كان المؤرخون مولعين ببخس الدعوة حقها، ونسبة الفضل في الوعي والانفتاح الفكري في العالم العربي بأسره إلى غزو نابليون لمصر، فليس ذلك إلا لأن المؤرخ مَعْنِيّ بربط الحوادث بما تلاها، وليس معنياً بالتنقيب في وثائق الفكر للوصول إلى المؤثر الأصلي في التغيير.
وكما كانت الدعوة هي ذات الأثر في النهضة، فإن الانحراف عنها أو عدم تقبلها في المجتمعات المسلمة بسبب حملة التشويه التي صاحبتها، هو سبب ما حل بالأمة بعد ذلك من فشل مشروع النهضة بعدما بدت بواكيرها، نعم: هذا هو ما حدث، فإنه لو قُدِّر -ولله الأمر من قبل ومن بعد- أن تتقبل الدولة العثمانية هذه الدعوة وتشيعها في ممالكها، وتتحرر بها الأفكار من الجمود والخرافة في ذلك الوقت المبكر، لانتقلت العلوم والتكنولوجيا وجديد الفيزياء والكيمياء إلى ممالكها في ذلك الحين، ولكان المسلمون يُصَدِّرون التقنية للغرب كما هو حال اليابان اليوم.
قد يختلف معي البعض ويستشهدون بتشدد الفقه السلفي، وهذا يجاب عنه من طريقين:
الأولى: نَفْي أن يكون الفقه السلفي ضيقا في باب التقنية والمخترعات الحديثة، والتفصيل في هذا له مقام آخر، إن شاء الله، لكن نقول هنا إن ظاهرة الشدة التي يمكن أن يكون اصطبغ بها الخطاب السلفي، جانب كبير منها لم يكن سوى صورة من صور ردات الأفعال نتيجة ما جوبهت به من القمع والاضطهاد والتخويف، ابتداء من عصر الخليفة المأمون وحتى عصرنا الحاضر، فكان ما يبدو للبعض تشددا في الخطاب أو في الاجتهادات لا يعدو أن يكون ردة فعل طبيعية كوسيلة لإثبات الحضور والبقاء في عالم دائم التآمر للقضاء عليها، لكن أصول السلفية ومبانيها العلمية بعيدة كل البعد عن محاربة العلوم المُصْلِحة للكون، وإنما هي دافعة باتجاهها ومهيِّئة لها.
الطريق الآخر: أن الفكر السلفي هو فكر الاجتهاد الموصِل إلى نبذ التقليد والتحذير منه، سواء أكان المقَلَّد من التابعين أم مَن بعدهم، وسواء أكان من الأئمة الأربعة أم من عاصرهم، فالاتِّبَاع إنما هو للدليل لا غير، وهذا كثير في عبارات المتقدمين والمتأخرين من السلفيين، وجاء في القرن السادس والسابع ابن تيمية وتلاميذه فأصَّلوا لهذا الأمر تأصيلا جعل من الدعوة للاجتهاد سِمَة لهم يُعْرَفُون بها وحوربوا من أجلها.


وهذا المبدأ، مبدأ تقديم الأدلة على الرجال، هو المِقَص الذي سعت السلفية من خلاله لأن تُقَطِّع أغلال الأسر التي رهنت المفكرين وأهل العلم قرونا للعلماء والمشايخ، على حد وصف الإمام صالح المقبلي [تـ1108هـ] في كتابه الذي أسماه «العلم الشامخ في إيثار الحق على العلماء والمشايخ»، ولا يعرف في تاريخ الإسلام دعوة تمنع الاستئسار للتقليد كالدعوة السلفية، ومن هذه الزاوية كان ظهورها في العالم الإسلامي مثل ظهور الديكارتية في أوروبا [والتشبيه ليس للمطابقة وحاشا لله]، فإذا كان منهج الشك الديكارتي صاحب الفضل الكبير على الانطلاقة العلمية لأوروبا، لكونه نادى بقوة لعدم الاستئسار للفكر الأرسطي في العلوم الطبيعية، والذي أصبح فكرا مقدسا بسبب تبني الكنيسة له، فإن الفكر السلفي كان بإمكانه إيصال المسلمين لآفاق أبعد بكثير من الآفاق التي وصلت إليها أوروبا بسبب الديكارتية، لكونه يؤصل للعقل المجتهد، وينتقد التقليد، ويَتشدد في التضييق عليه.
لكن المؤسف والذي غَيَّر في تاريخ العالم كثيرا: أنه في السنوات نفسها التي كان ديكارت يُبَجَّل ويعظم وتنتشر فيها مؤلفاته وتُتَقبل دعواته في تحرير العقول [تـ1650م-1060هـ] كان دعاة منهج السلف يضطهدون، فصالح المقبلي ضُيِّق عليه في اليمن حتى خرج إلى مكة، وقاضي زادة [تـ1045هـ] تم التضييق على حركته في حياته وبعد موته إلى أن انقطعت، ومحمد بن سليمان الروداني [تـ1094هـ] فُصِل من وزارته ونفي من مكة إلى دمشق حتى توفي.
فلو تُرِك هؤلاء وأمثالهم، من أصحاب الدعوات إلى تحرير العقول من الخرافة وفتح باب الاجتهاد وعدم حبسها على اجتهادات الأقدمين، لكان لهم من الأثر على العلوم أعظم مما كان لمعاصرهم ديكارت في أوروبا، وذلك لأنهم يتميزون ويختصون بكونهم يملكون مرجعية دينية صحيحة، ولديهم قواعد لغوية وشرعية ومنطقية للاستنباط من النصوص لا يملكها ديكارت في دينه، مما جعله يعلن أنه لا يوجد حقيقة ثابتة سوى علم الرياضيات، الأمر الذي جعله يدعو إلى ربط كل العلوم بها.
فلم يكن وسيلة أمام الأوروبيين للنهوض إلا الشك الذي دعاهم إليه ديكارت، وسبقه بعقود يسيرة فرانسيس بايكون [تـ1626].


أما المسلمون فقد كان أمامهم الاستجابة لنداءات دعاة العودة إلى الدين الصحيح الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، حيث لم يكن ثَمَّ تعارض بين العقل والنقل، وكان بإمكان العقل أن يأخذ طريقه في الرقي بعمارة الأرض، وتحضير البشرية برعاية النصوص العاصمة من الوقوع في إفساد الأرض.
ففي حين كان ديكارت يؤلف رسالته «مقال في المنهج» ليُثبِت أن التفكير ضرورة، وأنه دليل الوجود، وأنه من الضروري إيجاد فلسفة ما ورائية للتوفيق بين الدين والعلم، في ذلك الوقت كان علماء المنهج السلفي يرفعون أصواتهم بالآيات التي نزلت في إيجاب التَّفَكُر على البشر قبل ألف عام من مجيء ديكارت، ويتدارسون مؤلفات علماء السلفية التي تؤكد ارتباط العلم بالدين وعدم تنافيهما، ككتاب درء التعارض بين العقل والنقل لابن تيمية، وإعلام الموقعين لابن القيم، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير، والعلم الشامخ للمقبلي.
&

&