سلطان البازعي&

حينما انطلقت السيارات بسرعة هائلة في الشوارع الضيقة والمتعرجة لم تزعج النخيل الباسقة بضجيجها فقد كانت هادئة بشكل لافت، ولأنها لا انبعاثات لها فلم تلوث بأدخنة محروقاتها الجدران الطينية العتيقة التي اكتست حياة جديدة بلمسات الترميم الحانية، لكن المشهد كان قريباً من الحالة السوريالية. فالدرعية هذه البلدة الوادعة على ضفاف وادي حنيفة، شهدت تنظيم سباق لسيارات الفئة الأولى الأكثر تقدماً وهي السيارات الكهربائية، أي أن هذه البلدة القديمة التي اعتادت طرقاتها الفاصلة بين النخيل على عربات تجرها الدواب، أصبحت تسهم مع عواصم العالم الكبرى في الترويج لصناعة المستقبل والاستثمار في الطاقة البديلة.


وتحكي قصور الدرعية الشامخة على الضفة الغربية من الوادي وسورها الحجري على الضفة الشرقية قصة تاريخ عريق امتد لأكثر من خمسة قرون على الأقل، لكن هذه القرون الخمسة شهدت ميلاد عصر جديد للجزيرة العربية، بدأ حين صافح أمير الدرعية محمد بن سعود كف الداعية المجدد محمد بن عبدالوهاب، الذي لجأ إليه من قرية مجاورة أخرى تبعد كيلومترات قليلة إلى الشمال منها، وتعاهدا على النصرة والعون ووقّعا ما عرف فيما بعد بـ «ميثاق الدرعية» والذي ولدت على إثره الدولة السعودية الأولى، فبزغ فجر مجد جديد لا زال مشعاً حتى يومنا هذا، وسجلت البلدة اسمها في التاريخ باعتبارها العاصمة الأولى.

كان يمكن للدرعية أن تصبح واحدة من البلدات التي تتناثر على سطح هضبة نجد وتتقاتل فيما بينها على المراعي ومسايل الماء وتحصن نفسها عن هجمات الآخرين، لكن الأمر كان يستلزم ظهور قائد يمتلك الرؤية لصناعة التاريخ، كما كان يمكن للدرعية أن تكون مجرد ضاحية جميلة وأنيقة من ضواحي الرياض الكبرى، لولا أن قائداً تاريخياً آخر هو سلمان بن عبدالعزيز قرر وضعها في الواجهة العالمية مرة أخرى، لكن هذه المرة من باب التقنية والطاقة النظيفة. وقد يعتقد البعض أن سباقات السيارات وخاصة سباقات الفورمولا ون (والآن الفورمولا إي الكهربائية) هي رياضات مكلفة وغير ذات جدوى سوى إشباع نهم الجمهور للسرعة والقوة والتنافس، لكن الحقيقة أن حلبات السباق هي حلبات للتنافس بين صانعي السيارات على الابتكار في تطوير الصناعة من حيث القوة واستهلاك الوقود ومقاومة الهواء، إضافة – بالطبع- إلى تسجيل التفوق على المنافسين، ولذا أصبحت سباقات السيارات صناعة تصرف عليها الملايين وتدر الملايين على منظميها، وكنتيجة مصاحبة تجذب الكثير من الزوار للمدينة والدولة المستضيفة بما ينمي اقتصادها.

الدرعية تستضيف الموسم الخامس لسباقات فورمولا إي للسيارات الكهربائية، إذ بدأت عام 2014 في لندن، والموسم الثاني أقيم في لندن أيضاً، ثم في مونتريال كندا، ثم في نيويورك. وبعد الدرعية سيمضي موسم السباق الخامس لإقامة 13 جولة في 12 مدينة خلال عام 2019، بما يعني أن الدرعية كانت من المدن السباقة في استضافة السباق. وإذاً هي رياضة حديثة نسبياً، فما الذي يجعل السعوديين يتحمسون لسباقات لم تأخذ بعد حقها من الشهرة مثل سباقات سيارات المحروقات؟ والإجابة بسيطة إنه «الرهان على المستقبل»، والدولة صاحبة المخزون الأعلى في احتياطات النفط تدرك أن هذه المادة أثمن من أن تحرقها بليونات من السيارات تجوب طرقات العالم على مدار الساعة بما تسببه من ضجيج وتلوث، فالنفط يصبح أعلى ثمناً وقيمة مضافة متى ما تحول إلى لقيم لصناعات تحويلية كثيرة، وهذا التوجه كان عنواناً بارزاً من عناوين رؤية المملكة 2030.

صحيح أن السيارات الكهربائية لا تزال تواجه تحديات في تسويقها، ومن أهم هذه التحديات قناعة المستهلك بقوتها وسرعتها مقارنة بمنافستها صاحبة التاريخ الطويل من العلاقة مع السائقين، لذا تأتي هذه السباقات كواحدة من أهم وسائل الإقناع، ووسيلة الإقناع الأخرى هي توافر محطات شحن هذه السيارات بالطاقة، وهنا لا شك في أنها ستكسب موطئ قدم خاصة مع الارتفاع المتصاعد لأسعار المحروقات، ولن يكون يوم الحظر الشامل لمحركات الديزل والبنزين ببعيد، فقد بدأت بعض الدول الأوروبية بذلك بعد أن أمضت بعض الوقت في إعطاء جرعات تحفيزية للناس لكي يتحولوا.

الجانب الآخر من المشهد الخرافي كان في الحالة الثقافية المتكاملة والفائقة الإدهاش التي شهدتها ساحات حي البجيري بالدرعية، ضمن الفعاليات المصاحبة للحدث. ثلاثة أيام كاملة امتلأت ساعاتها بالكثير من عروض الموسيقى والفنون التشكيلية والتراثية، وخدمات الطعام والترفيه العائلي، إضافة إلى الحفلات الموسيقية لنجوم عالميين، كان مزيجاً فريداً من التاريخ والمعاصرة، الأصالة والحداثة، التقاليد الراسخة والتطلع إلى المستقبل.

إلا أن المشهد الذي جعلني أتوقف عنده كان جموعاً من الشباب والشابات يعملون على تنظيم الحدث بهمة لا تعرف الكلل، وابتسامة لم تعطلها ساعات العمل والوقوف الطويلة، كان هؤلاء يدركون المعاني الرمزية الكبرى لإقامة هذا الحدث في الدرعية بالذات، ويستلهمون حماستهم وشغفهم من عراب الرؤية ولي عهد بلادهم الأمير محمد بن سلمان، والذي كان معهم يصافحهم ويحييهم ويلتقط الصور معهم ومع الزوار الكثر الذين أخذت طريقي بينهم لأصافحه مهنئاً، وكانوا يعملون تحت قيادة شاب مثلهم يعمل بقدر ما يعملون، لقيته في إحدى الساحات وحرصت على تهنئته بالإنجاز الكبير، إنه الأمير عبدالعزيز بن تركي الفيصل.