&عبد العزيز التـويـجـري&

عقدت في المنامة يومي 28 و29 من تشرين الثاني (نوفمبر)، الدورة الاستثنائية للمؤتمر الإسلامي لوزراء الثـقافة، بدعوة من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –إيسيسكو- تحت عنوان «جميعاً من أجل حماية التراث الإنساني ومواجهة التطرف». والربط بين حماية التراث ومواجهة التطرف، ربطاً منهجياً مُحْـكماً، ينطلق من أن التطرف، الذي هو مدخـل إلى الإرهاب، يستهدف التراثَ الماديَّ واللاماديَّ على حدّ سواء، كما هو حاصلٌ في عددٍ من مناطق العالم الإسلامي، وبخاصة في مدينة القدس الشريف. ولذلك تجب مواجهةُ آفة التطرف بشتى الطرق الأمنية، والأساليب الفكرية، والمناهج التربوية، والقضاءُ عليه حتى نضمن حماية التراث الذي هو رصيدٌ مدخرٌ ومتوارثٌ عبر أحقاب التاريخ، للاستفادة منه، وللاعتبار به.


فالتراث من ركائز الهوية الوطنية الثقافية التي يُـعـدُّ الاعتـزازُ بها تعبيراً عن الانتماء إلى الهوية الإنسانية التي تجمع بين البشر كافة. وعلى أساس هذا المفهوم العميق، يكون التراث الوطنيُّ والعربيُّ والإسلاميُّ تراثاً إنسانياً عالمياً.

كما عقد في القاهرة في الشهر الماضي، مؤتمر للوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الدول العربية، بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم -أليكسو- وعقد المؤتمر تحت عنوان «المشروع الثقافي العربي في ظل التحديات الراهنة»، وفي ظروفٍ صعبة يعيشها العالم العربي، حيث تَـتَـصَاعَدُ التهديدات التي تَـتَـعَدَّدُ مصادرُها، لإضعافه وتمزيقِ وشائج القربى التي تجمع دوله، والمساسِ بما اصطُلح عليه بالنظام العربي، الذي يستند إلى ميثاق جامعة الدول العربية، وإلى قرارات مؤتمرات القمة العربية. ولذلك كان اختيار الموضوع الرئيس للمؤتمر اختياراً موفَّـقاً ومطابقاً لمقتضى المرحلة الحالية، ومعبراً، في الوقت نفسه، عن طبيعة التحدّيات الصعبة التي تواجه الدول الأعضاء كافة. ذلك أن (المشروع الثقافي العربي) يقف اليوم أمام تحدّيات ضارية، لأنه جزء لا يتجزأ من (المشروع الحضاري العربي) في مفهومه الواسع ومدلوله العميق.

فالمؤتمران معاً، الإسلامي والعربي، أكدا بصيغة متقاربة، أن الثقافة هي الركن الأساسُ في بناء الشخصية العربية الإسلامية، وهي عمادُ الحضارة العربية الإسلامية، على تعدّد العناصر التي تتكوّن منها، وهي إلى ذلك كلِّـه، خطُّ الدفاع الأولُ عن الهوية والخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية للأمة العربية. ومن أجل ذلك، كان المشروعُ الثـقافيُّ العربيُّ جِماعَ هذه الخصائص الذاتية والموضوعية، لأنه يمثل جوهرَ الثقافة العربية ذاتِ الأصول العريقة والمقوّمات الراسخة. ومن ثمة كان الهجومُ على هذا المشروع القومي والإضرارُ به، عملاً مقصوداً، لزعزعة الكيان العربي الكبير، وتعريضه للمخاطر الجمّة التي تهـدّد الأمن والسلم في ربوعه.

ولما كان المشروع الثقافي العربي يقوم على قواعد ثابتة، إحداها اللغة العربية، فإن الهجوم الذي يُـوجَّه إلى لغتنا العريقة، على أكثر من صعيد، هو عدوانٌ على العرب أجمعين، بل على المسلمين كافة في جميع أقطار الأرض. لأن اللغة عنصرٌ أساسٌ من العناصر القوّية التي تشكّل هذا المشروع، إنْ فسدتِ اللغةُ فَـسَدَ المشروعُ الثقافيُّ العربي، وإنْ قويتِ اللغةُ واغتنت وازدهرت وتجدّدت، كان المشروعُ في مأمنٍ من الانتكاس والانهيار، وبعيداً من الفشل.

ولأن المشروع الثقافي العربي قضيةُ سيادةٍ في المقام الأول، فإن حماية اللغة العربية، والعناية بها، ودعمها، وتحديثها، وتطويرها، وإحلالها المكانة المرموقة التي تَـتَـنَـاسَبُ وأهميتَها في الحياة العربية، وحضورَها القويَّ في الضمير العربي، من أعمال حماية السيادة العربية جملةً وتفصيلاً، التي ترتبط بالأمن القومي العربي في مدلولاته الثقافية والفكرية والإبداعية والحضارية لأن الأمن الفكري، والأمن الثقافي، ولنـقـل أيضاً، الأمنَ اللغويَّ، كل ذلك هو الأساسُ لأمن المجتمعات وأمن الأوطان.

وحتى لا يبقى المشروعُ الثقافيُّ العربيُّ نظرياً أكثر منه واقعياً، يتوجّب الانتقال من مرحلة الدفاع العاطفي المنفعل، والحماية العاجزة القاصرة عن بلورته وتجسيده في ممارساتٍ عمليةٍ تَـتَـجَـسَّدُ على أرض الواقع، إلى المرحلة الأكثر إيجابياً والأوفر حظاً من النجاح في تحقيق الأهداف. ولذلك كان المقترح الذي طرح، خلال الفترة الأخيرة، في بعض الأوساط، بعقـد قمة عربية حول الثقافة العربية تكون من محاورها الرئيسَة دراسة الأوضاع الحالية للغة العربية، مقترحاً وجيهاً، حان الوقت للخروج به إلى حيّـز التنفيذ.

لقد سبق للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) أن رحبت، وفي أكثر من مناسبة، بفكرة عقد قمة عربية ثقافية. ونشرتُ شخصياً في هذه الصحيفة، أكثر من مقال حول هذا الموضوع. ولذلك حرصت على أن أدعو مؤتمرَ القاهرة، في كلمة وجهتها إليه، ليتخذ قراراً يُوصي فيه بعقد مؤتمر قمة عربي يُخَصَّصُ للثقافة العربية، وتكون حماية اللغة العربية محوراً رئيساً له، دعماً وتعزيزاً للمشروع الثقافي العربي في مواجهته للتحديات الحالية، وتفعيلاً لمضامينه العملية. كما أكدت في مؤتمر المنامة ضرورة إيلاء بالغ الاهتمام للتعاون في المجالات الثقافية المتنوعة بين الدول الأعضاء.

وكنتُ قلت في كلمة ألقيتها في ملتقى عُـقـد في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، في شهر نوفمبر من السنة الماضية 2017، حول موضوع صياغة رؤى للعمل الثقافي العربي: «إن القضية الثقافية، بكل تشعباتها وفي امتداداتها جميعاً، وبمفاهيمها العميقة وبدلالاتها الشاملة، هي قضية تستوجب العناية السياسية على أعلى المستويات». وأكّـدت في كلمتي ضرورةَ عقد قمة عربية ثقافية، لأنها ستكون «تطوراً نوعياً مهماً يمهد لانطلاقة ثقافية نهضوية»، تعطي للمشروع الثقافي العربي قيمتَـه، وتوفر له سبل الانتقال إلى مرحلة التنفيذ. وأرى أن الوقت مناسب لتجديد الدعوة إلى عقد قمة عربية ثقافية.

إن المرحلة الحالية التي يعيشها العالم العربي، على الرغم من الأحداث العاصفة التي يمر بها، والأزمات التي يعانيها، والأجواء المقلقة المحيطة به، تستدعي العمل المتناسقَ المتضامنَ لصدّ العدوان على الأمة العربية لغةً وثقافةً وعقيدةً ووحدةً وأمناً قومياً. ولذلك فإن حماية المشروع الثقافي العربي مما يتعرّض له من مخاطر، مسؤوليةٌ عربية جماعيةٌ، تتطلب قرارات سياديةً من القمة العربية، تكون فاعلةً ومؤثرةً، ويواكبها تنفيذ محكم بضوابط صارمة، وإرادات حكيمة رشيدة ساهرة عليها، حمايةً للـذات العربية، وصونـاً للمصالح المشتركة العليا، وحفاظاً على سلامة المشروع الثقافي العربي واستدامته ومسايرته للمتغيّرات في الساحة الدولية.