أفردت جريدة "عكاظ" صفحة كاملة لتتبّع المسيرة المهنية لناشر "إيلاف"، عثمان العمير. وفي اخراج مميز،&تطرّق الدكتور عبدالله المدني لـ"عراب الصحافة السعودية" و"قيصر الصحافة العربية الإلكترونية"، و"جليس الملوك والرؤساء"، و"هيكل السعودية".

قراءة الدكتور عبدالله المدني*

احتفلت صحيفة «الشرق الأوسط» في يوليو 2018 بمرور 40 عاما على صدورها من عاصمة الضباب في الرابع من يوليو 1978 كمطبوعة متميزة، ليس من حيث التوزيع في جميع أنحاء العالم والطباعة بشكل متزامن في 12 مدينة في أربع قارات مختلفة، وإنما أيضا لجهة المصداقية والمهنية العالية وتقديم التحليلات المتعمقة والتغطيات الأكثر شمولا في العالم العربي. وبهذه المناسبة تذكر الكثيرون أولئك الرجال الذين وقفوا خلف نجاحاتها وكرسوا وقتهم وحياتهم وجهدهم في سبيل مد القارئ بالخبر الصحيح والمعلومة الدقيقة والمعرفة المفيدة. صحيح أنه توالى على قيادة «الشرق الأوسط» آنذاك وحتى اليوم 10 رؤساء تحرير، إلا أن أكثرهم ارتباطا بها ووضعا لبصماته عليها وتفانيا في خدمتها كان عثمان العمير، الذي يحار المرء في إيجاد صفة له تتناسب مع شخصيته المثيرة للجدل، وآرائه المستفزة للبعض، وعلاقاته المتشعبة مع الكبار شرقا وغربا، وهواياته الغريبة، وأحكامه القافزة لكل الحواجز، وطبيعته الإنسانية الودودة، وعشقه للحياة والموسيقى والفنون والحضارة البريطانية، وقراره البقاء عازبا إلى نهاية العمر. إنه حقا أكثر من شخص، وبالتالي فهو أكثر من انطبق عليه اسم البرنامج الذي استضافه في رمضان 1439 للهجرة «مجموعة إنسان» الذي يقدمه الإعلامي السعودي «علي العلياني» من قناة MBC.

أطلق عليه محبوه ألقاب «عراب الصحافة السعودية»، و«قيصر الصحافة العربية الإلكترونية»، و«جليس الملوك والرؤساء»، و«هيكل السعودية»، وأطلق عليه خصومه ألقاب «الضال» و«المتصابي» و«عميل أجهزة المخابرات» وغيرها، فيما هو غير مكترث بما يُقال عنه، متأسيا بالمتنبي في قوله «أنام ملء جفوني عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصم». للحديث عن هذه العمير المشاكس سوف نستقي المعلومة من عدد من الحوارات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت معه، والمقالات التي كُتبت عنه، وبعض المراسلات والأحاديث التي تمت بينه وبين كاتب السطور في أكثر من لقاء ومناسبة.

الزلفي مسقط رأسه

ولد العمير في 25 أغسطس 1950 بمدينة «الزلفي» النجدية، ابنا لرجل الدين المحافظ الشيخ موسى بن عمير العمير الذي خالف إخوته الأربعة فلم يهاجر معهم من الزلفي إلى العراق (في هذا السياق قال العمير في مقال له في الشرق الأوسط بتاريخ 10/‏5/‏2003 ما معناه أنه كان ممكنا أن يكون عراقيا بالولادة لو أن والده خرج من الزلفي مع أعمامه إلى العراق). أما أمه فهي نورة بنت سليمان الذيّب، المنحدرة من أسرة نجدية عُرفت بعملها في التدريس والقضاء.

نشأ العمير كغيره من أبناء العائلات النجدية في بيئة محافظة، وكان والده يريد له أن يصبح مثله شيخا أو داعية، لكنه لم يستسلم لرغبات أسرته، بل اتجه وجهة معاكسة غير ملتزمة بالماضويات قدر التزامها بأفكار التحضر والتمدن، على الرغم من اعترافه بأنه استفاد بشكل كبير من ثقافة والدته المتعلمة.

طيبة.. المنعطف الأول

أحد المنعطفات الأولية المهمة في حياته كان انتقاله مع والديه إلى المدينة المنورة (وصفها في حواره مع علي العلياني في برنامج مجموعة إنسان بـ«مدينة مفتوحة الأفكار، لاحدود للمعرفة فيها») بحكم نقل والده إلى هناك ليكون ضمن الفريق المؤسس للجامعة الإسلامية بالمدينة سنة 1960. ومما لاشك فيه أن هذا الانتقال من بيئة محافظة كبيئة الزلفي إلى بيئة المدينة المنورة المتميزة بمظاهر الانفتاح والتعددية الثقافية والاجتماعية كانت له انعكاساته الإيجابية على سنوات التكوين الأولى في حياته، على الرغم من أن تلك السنوات حفلت ببعض المتاعب التي أعادته مرة أخرى إلى نجد، لكن ليس إلى الزلفي وإنما إلى العاصمة الرياض. وملخص القصة كما رواها بنفسه في قناة MBC ضمن برنامج «نقطة تحول» للإعلامي السعودي الراحل سعود الدوسري أنه حينما كان يدرس في «المعهد العلمي» الديني بالمدينة كتب في مجلة الحائط نكتة محورها نظرية دارون في النشوء والارتقاء فتسبب ذلك في انزعاج إدارة المعهد وفصل على إثرها عام 1968، لكن جرى اتفاق سري دون علمه بين والده والمعهد قضى بنقله إلى المعهد العلمي المماثل في الرياض لإتمام تعليمه. وعلى غير المتوقع من شاب بدت عليه أمارات التمرد والتذمر والجموح مبكرا، أنهى العمير دراسته في المعهد المذكور، بل اكتشف في الرياض حياة توافقت مع ميوله الكروية (تشجيع نادي الهلال)، واهتماماته الفنية (الطرب والموسيقى)، فحفر في العاصمة جزءا من ذكريات شبابه، ولاسيما في البطحاء وشارع الوزير وحلة القصمان.
الرياضة.. بوابته للصحافة

بعد تخرجه من المعهد العلمي بالرياض التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود، لإكمال دراسته الجامعية التي تعطلت بسبب طغيان عشقه للصحافة على التحصيل الجامعي. إذ كان وقتها قد بدأ مشواره الصحفي مراسلا رياضيا في عدد من الصحف السعودية مثل «المدينة»، و«الندوة»، و«الرياض»، ومجلة اليمامة، ثم أتبعه بالعمل في صحيفة الجزيرة السعودية في مطلع سبعينات القرن العشرين، حيث تولى رئاسة القسم الرياضي ثم سكرتارية التحرير، لكنه ترك منصبه هذا وسافر لدراسة اللغة الإنجليزية في لندن التي عمل منها مراسلا لصحيفة الجزيرة حتى عام 1983. وقد تخللت هذه الفترة من حياته عودته إلى السعودية في عام 1980 حيث أمضى ثمانية أشهر في المنطقة الشرقية كرئيس لتحرير صحيفة اليوم الصادرة من الدمام، عاد بعدها إلى لندن.

لقد مثلت لندن للعمير النافذة التي شاهد من خلالها العالم الآخر بجنونه وصرعاته وفنونه ومكتباته ومتاحفه ومطابخه واتيكيتاته وابتكاراته وتقلباته وثوراته وسجالاته وطبقاته، فراكم مخزونا معرفيا واسعا، وبنى علاقات بالنخب وصفوة المجتمع المخملي والدبلوماسي والإعلامي، ساهمت لاحقا في بروزه كقطب من أقطاب الإعلام وكصاحب قلم رشيق متميز في الوطن العربي وبلاد المهجر وكصوت حر جريء يقول ما يؤمن به دون حرج.

لكن في المقابل لم يسلم الرجل -شأنه في ذلك شأن كل المبدعين من حملة رايات التنوير والحداثة- من الحسد والقيل والقال والشائعات المغرضة والاتهامات الجوفاء. غير أن صاحبنا كان قد حصّن نفسه بمضادات التجاهل فمضى في طريقه مؤمنا بمبدأ «أن من يعمل تحت الأنوار الكاشفة لا بد أن تلاحقه تخرصات الظلاميين»، واستمر يمضي غير آبه بشيء سوى الاستمتاع بكل جميل في الحياة.

«المجلة» ثم «الشرق الأوسط»

في 1984 وضع العمير أولى خطواته الثابتة في بلاط صاحبة الجلالة، وذلك حينما اختير رئيسا لتحرير مجلة «المجلة»، الصادرة في لندن عن الشركة السعودية للأبحاث والتسويق (مالكة صحيفة الشرق الأوسط). لكن الخطوة التي رسخت أقدامه بصلابة في عالم الإعلام المكتوب جاءت بعد ثلاث سنوات من عمله في «المجلة». ففي عام 1987 شعرت الرياض أن «الشرق الأوسط» المحسوبة عليها مقصرة إعلاميا لجهة إطلاع العالم على حقائق حادثة التصادم في الحرم المكي بين الحجاج الإيرانيين وقوات الأمن السعودية، والتي أدت إلى مقتل المئات من الطرفين في ذلك العام. وبكلام آخر وجدت الشركة السعودية ضرورة استبدال جهاز التحرير المكون من صحفيين غير سعوديين كان قد أتى بهم أول رؤساء تحرير الصحيفة جهاد الخازن، بجهاز تحرير جديد يترأسه صحفي سعودي مثقف وطموح ومخلص لوطنه وقيادته. التفت ملاك الصحيفة الخضراء يمينا ويسارا فلم يجدوا أفضل للمهمة من عثمان العمير الذي كان وقتها قد راكم خبرات صحفية ومهنية معتبرة، وعلاقات قوية مع رموز الفكر والسياسة. وهكذا صار العمير رئيسا لتحرير إحدى أقوى الصحف العربية وأكثرها انتشارا وقراءة في العالم العربي وبلاد المهجر. أما المفارقة هنا فهي أن العمير كان قد كتب قبل نحو 30 عاما مقالا يسفه فيه «الشرق الأوسط» بسبب نشرها صورا مخلة من وجهة نظره آنذاك. ولأن ليس من طباعه التهرب من فعل أو قول سابق، فقد وصف ما أقدم عليه بالعته.

يخطف الإعجاب

من خلال هذا المنصب الذي شغله ما بين عامي 1987 ــ 1998 قابل وحاور وحاز على إعجاب العديد من الزعماء العرب وقادة العالم الكبار في تلك الحقبة. والحقيقة أن دوره في هذه الحقبة الذهبية من حياته تجاوز دور رئيس التحرير إلى دور البلدوزر الذي يزيل ويمحي من أمامه كل من يتخرص ضد بلاده عبر مقالات مقنعة، ومن هنا شبهه البعض بالكاتب المصري محمد حسنين هيكل الذي برع في الدفاع عن النظام الناصري في مصر. لكن على العكس من هيكل المتلون المفبرك للحكايات والذي دأب في كل حواراته على الظهور بمظهر الرجل صاحب المبادئ والسيرة النقية الطاهرة، والكف النظيف، فإن العمير لم يخجل من القول إنه استلم من مليكه فهد بن عبدالعزيز «شرهة»، وإنها كانت مكونة من 6 أرقام، وكان المبلغ بالريال ثم تحول إلى الدولار، بل واعترف أنّ علاقاته السياسية الواسعة كانت تحت أعين وآذان المخابرات، وأنه لم يجد غضاضة في التعاون الاستخباراتي «إلا في حالة تنكيل أجهزة الاستخبارات بالشعوب، أما عدا ذلك فهو عمل وطني جليل». وعلاوة على هذا أقر بأنه «وصولي»، موضحا أنّ شأنه في ذلك شأن الناس فكلهم وصوليون، وأن علاقته بالملك فهد بن عبدالعزيز والملك الحسن الثاني كانت سياسية بالدرجة الأولى، وأنه استطاع بقدراته أن يجعلها تدوم حتى وفاتهما. وعلى حين بدا هيكل مراوغا لجهة الإفصاح صراحة وبوضوح عن خطه السياسي بعد سقوط الناصرية، كان لدى العمير الشجاعة وسط مجتمعه المحافظ ليقول بأعلى صوت إنه ليبرالي. ففي حوار أجراه معه الإعلامي حسن معوض صاحب برنامج «نقطة نظام» من قناة العربية، قال العمير: «منذ الصغر وأنا ليبرالي، ولم تكن هذه الليبرالية متعارضة لتكيفي مع المجتمع السعودي»، مؤكدا أن لا تناقض بين ليبراليته وسعوديته، فهو سلفي النهج سياسيا «لأنني ملكي، أؤيد العائلة المالكة في السعودية، وأؤمن بالدولة، وهذا لا يتعارض مع كوني ليبراليا»، لأن الليبرالية ليست كفرا أو مضادة للدين كما يعتقد الناس، وإنما هي منهج في الحياة والاقتصاد.

صاحب أول صحيفة عربية إلكترونية

قبل ترك عثمان العمير لمنصبه القيادي في «الشرق الأوسط» تحت تأثير الحزن الذي أصابه برحيل سنده وصديقه الملك فهد (رحمه الله)، كان قد أسس في العام 1995 شركة إعلامية في بريطانيا مع صديقه وخليفته في رئاسة تحرير «الشرق الأوسط» عبدالرحمن الراشد وأطلقا عليها (OR)، إشارة إلى الحرفين الأولين من اسميهما باللغة الإنجليزية. وتخصصت الشركة في إعداد برامج تلفزيونية لقنوات فضائية في الشرق الأوسط وبريطانيا وأمريكا، لكن شراكة الرجلين انفضت لاحقا، حيث عزا العمير السبب، في حواره مع علي العلياني، إلى «عدم فهمه في مهنة التلفزيون على العكس من الراشد المتخصص في التلفزيون والحائز على خبرات تلفزيونية من أمريكا». وفي الحوار نفسه امتدح العمير شريكه السابق قائلا إن الراشد مارس الصحافة والتلفزيون والكتابة، ومن الطبيعي أن يكون أفضل من العمير الذي لا يعرف سوى الصحافة.

لكن ما الذي سيخلد العمير؟ هل قيادته للصحيفة الخضراء لعقد كامل؟ أم علاقاته مع الملوك والرؤساء؟ أم معاركه وصرعاته الفكرية؟ يبدو أن الرجل شعر بأن كل ما سبق لن يخلد اسمه، هو العاشق للشهرة والأضواء والجمال والخلود، ففكر في تأسيس موقع «إيلاف» الإلكتروني في 21 مايو 2001 ليخلد اسمه في الحياة. لقد أتى العمير، من خلال تأسيس هذا الموقع في بريطانيا، بما لم يأت به الأوائل. وعليه سوف يُخلد اسمه في تاريخ الإعلام العربي كصاحب أول وأشهر صحيفة عربية إلكترونية. وقد أوضح بنفسه أن أجمل ما في تجربة «إيلاف» هو العري الكثير، قائلا: «لا أتكلم عن العري الجسدي، ولكن العري في الخبر، حيث نكشف الحقائق كما هي دون تزييف ونحن خاضعون لنظام بريطاني قاسٍ جدا». نعم، قاد العمير تجربة إطلاق الصحيفة الإلكترونية العربية الأولى، واصفا إياها بـ«المغامرة»، لكنها كانت مغامرة ناجحة بكل المقاييس، بدليل أن الصحافة الإلكترونية العربية سرعان ما انتشرت وصارت تنافس الصحافة الورقية، وأصبح لها عشاق بالملايين، فحققت تطورا هائلا في زمن قياسي. وإن شئت دليلا آخر فهو حصد «إيلاف» وصاحبها للعديد من الجوائز مثل: جائزة شخصية العام الإعلامية التي تسلمها العمير من سمو الشيخ محمد بن راشد عام 2007، ودرع التكريم خلال منتدى الجائزة العربية للإبداع الإسلامي لعام 2007 في الأردن، وجائزة الإبداع الإعلامي من مؤسسة الفكر العربي في مؤتمرها السادس في البحرين عام 2007. إلى ذلك، استطاع العمير بحسن تدبيره واستثماره للعلاقة الخاصة التي ربطته بالملك الحسن الثاني منذ أن تولى كتابة مقدمة مذكرات الملك عام 1979 أن يتملك خلال سنوات قليلة، بجانب صحيفة إيلاف، أكبر دار نشر صحفية في المغرب هي مجموعة «ماروك سوار». وقتها ردد خصومه كذبا أنه مجرد واجهة فحسب لإدارة مجموعة النشر، زاعمين أنه «لا يملك مشاريع كافية تؤمن له النقود لشراء المجموعة».

* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين