السيد ولد أباه

مرت مؤخراً الذكرى المئوية الخامسة لصدور أطروحات رجل الدين الألماني «مارتن لوثر» التي أحدثت شرخاً قوياً في العالم المسيحي، ومكنت من إحداث ما سمي بالإصلاح الديني البروتستانتي الذي غيّر جوهرياً التقليد التأويلي واللاهوتي المسيحي.

وقد اشتهرت أطروحة عالم الاجتماع «ماكس فيبر» التي تربط بين نشأة الرأسمالية الحديثة في مقوماتها النظرية والمعيارية (العقلنة الأداتية وتمجيد العمل وتنمية عقلية الادخار والإنتاج) بالروح الدينية البروتستانتية، ومن ثم تقررت مسلمة تمهيد الإصلاح البروتستانتي للحداثة والتنوير في أوروبا. إن هذه المسلمة هي الخلفية التي أطرت تصور الكثير من المفكرين المسلمين المحدثين من محمد عبده ومحمد إقبال إلى محمد أركون في مطالبتهم بتحقيق الإصلاح الجذري في الإسلام لتهيئة السبل للتحديث الفكري والاجتماعي.

بيد أن الكتابات العربية تخلو إجمالاً من أي مقاربة جدية لحركية الإصلاح الديني المسيحي وعلاقته المزدوجة بالحداثة والتنوير، باعتبار أن الديناميكية البروتستانية كانت في أحد وجوهها نزعة إحيائية تأصيلية تدعو للرجوع للنص المقدس ونبذ التراث الفلسفي اللاهوتي الواسع الذي ارتبط بتقليده التأويلي، كما كانت نزعة زهدية متقشفة ناقمة على الثقافة النفعية الاستهلاكية والفنون الجمالية لعصر النهضة، ومن هنا لا وجه لوصلها بالقيم الحداثية التنويرية، لكنها من وجه آخر ساهمت في تقويض المنظومة السكولاستية الوسيطة في جانبها المعرفي والمؤسسي الديني مدشنة أفقاً جديدا للعالم الأوروبي.

لا يتسع المقام للوقوف عند أهم المقومات الفكرية للإصلاح الديني، وإنما سنكتفي بالإشارة إلى محاور ثلاثة مركزية في هذا الفكر، كما وردت في أعمال مارتن لوثر وجان كالفين.

المحور الأول يتعلق بعقيدة «الخلاص» وما يتصل بها من منزلة البابوية المقدسة والدور المنوط بها في منح الغفران. الخلاص بالنسبة للإصلاحيين البروتستانت حالة فردية تحكمها العلاقة المباشرة بين الله وخلقه لا يتوسطها رجل الدين، بل هو في كامله معلق بالمشيئة الإلهية والعدل الإلهي، ولا يمكن للمؤمن أن يستحق النجاة الأخروية بعمل أو سلوك أو اصطفاء مسبق. ما تؤكد عليه الأطروحة البروتستانية (القريبة من المنظور الأشعري الإسلامي) هو أن ما يحمل على الطمأنينة هو حب الله ورحمته والثقة به والاتكال عليه، وليس وساطة رجل الدين الذي لا يمكنه أن يتدخل في القدر الإلهي، ولا شأن له بعالم الجزاء والعقوبة الذي هو من محض اختصاص الخالق.

أما المحور الثاني فيتعلق بالتمييز اللوثري الشهير بين «لاهوت التمجيد» و«لاهوت الصليب»؛ أولهما يقوم على البحث عن معرفة الله من خلال الطبيعة والصفات بالرجوع إلى المقولات الفلسفية (الجواهر والطبائع) فلا يصل إلى نتيجة، بل يظل حبيس التصورات الخيالية والنفسية التي لا تتفق مع حقيقة التعالي الإلهي والمغايرة المطلقة مع المخلوقات، في حين أن «لاهوت الصليب» يركز على علاقة الظهور والانكشاف والتجلي التي لا يمكن أن تنقل إلى المقولات العقلية والبراهين الصورية، بل شرطها هو الإيمان من حيث هو هبة إلهية تدشن أفق المعنى والفهم قبل التعقل والاستدلال والبرهان (لا يختلف هذا الرأي كثيراً عن المذاهب الصوفية والعرفانية الإسلامية، خصوصاً مدرسة الإشراق بجذورها الفلسفية السينوية وخلفياتها في تصوف ابن عربي). إن هذا التمييز بين المعرفة والاعتقاد سيكون له أثر كبير في الفلسفة الغربية الحديثة، وقد وصل ذروته لدى كانط الذي أكد في مشروعه النقدي أن التجربة الدينية لا محل لها في مجال المعرفة المحصور في الطبيعيات، بل في العقل العملي الأخلاقي الذي يقتضي الإيمان بالمطلقات الدينية.

أما المحور الثالث فيتعلق بالانتقال من النموذج التفسيري للنص الديني إلى النموذج الروحي بلغة لوثر. النموذج الأول كما كرسه التقليد التفسيري يقوم على فهم النص وفق دائرة تأويلية رباعية هي الدلالة السياقية والدلالة المجازية والدلالة الاعتبارية والدلالة القصدية، في حين يتبنى الخط الإصلاحي مفهوم التأويل الصادر عن التجربة الروحية العميقة، أي ربط الدلالة بالموقف الوجودي والنمط المعيش الحي بدلاً من سجن النص في سياقه التاريخي الأصلي، وبهذا يكون النص ليس كلام الله الحرفي، بل ما أراد الله قوله من خلال الكلمة الحية المعروضة للفهم والاستبطان.

ومن الجلي أن هذا التصور هو الخلفية العميقة للتأويليات المعاصرة من شلايرمخر إلى بول ريكور، فلا خلاف أن الفلاسفة واللاهوتيين البروتستانت هم أساتذة الهرمنوطيقا الحديثة. تلك حقيقة نادراً ما يتم الوعي بها لدى أولئك الذين يريدون بناء تأويلية إسلامية جديدة وفق هذا النموذج دون إدراك خلفياته اللاهوتية العميقة، حتى ولو كانت أوجه التشابه مع بعض التقاليد التأويلية الإسلامية التراثية بادية للعيان.