سلطان البازعي

 من يتمعن في حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في إشارته إلى «الصحوة»، لا بد أن يلاحظ أنه استخدم كلمة «مشروع» لوصفها، وهذا كان دقيقاً للغاية، وبخاصة حين ربطها بتاريخ بدايتها عام 1979، فهي لم تكن حركة فكرية لها مشروعها الحضاري، ولم تكن مرحلة أتت استجابة عفوية لتحديات واضحة تهدد الإسلام والمسلمين، وبخاصة في هذا البلد، الذي من أهم سماته تدين أهله وارتباطهم هم وحكومتهم بالمنهج السلفي، إذ إن الدولة قامت على أساس هذا المنهج، وهو ما جعلها عرضة لكثير من الانتقادات التي لم تفت في عضدها عن المضي في طريق «مشروعها» الحضاري وتحقيق التقدم الهادئ المستدام، الذي يراعي تطور الإمكانات البشرية واستعداد سكانها لتولي زمام كل مرحلة.

إذاً كيف نشأ هذا «المشروع الصحوي»، ولماذا؟ ولِمَ في هذا التوقيت تحديداً؟ سأترك الإجابات المعمقة لمن هم أقدر على تحليل الظاهرة في سياقاتها التاريخية والفكرية والسياسية، لكنني سأمر بما هو ظاهر وجلي لكل مراقب، وخصوصاً من جيلي الذي عايش مرحلة ما قبل الصحوة، وتشكل وعيه قبل إقبالتها غير المباركة.

الذين عارضوا مشروع الملك عبد العزيز الحضاري ووقفوا في مواجهة مع أطروحاته الحداثية، وبمواجهة مسلحة أحياناً، مثل حركة «الإخوان»، كانوا من السلفيين البسطاء الذين كانوا يظنون أنهم يتمثلون حياة المسلمين الأوائل بتفاصيلها المجردة، وليس بجوهرها، وامتداداً لهؤلاء ظهر الذين رفضوا الراديو، ثم تعليم المرأة، ثم التلفزيون، إلى آخر تفاصيل الحياة الحديثة، ولعل قيادة المرأة السيارة آخرها، وكان مبدأ «سد الذرائع» هو عنوان اجتهاداتهم الفقهية، لكن هل كانت حركة جهيمان ثم القاعدة ثم «مشروع الصحوة» امتداداً للسلفية بوجهها البسيط ذاك؟ ثم ما هو ارتباط كل هذه الحركات والمشاريع بهذا التاريخ «1979»؟

في ذلك العام قامت ثورة الخميني في إيران، التي أطاحت بالشاه وأقامت أول دولة في العصر الحديث يحكمها رجال دين، وأعطى الخميني ثورته الشرعية وحكمه الحصانة من ادعاء أنه يمثل الإمام الغائب، مبتكراً صفة الولي الفقيه، وبالتالي فهو يحمل تفويضاً إلهياً للحكم ولتصدير الثورة إلى كل أنحاء العالم، تمهيداً لعودة الإمام الغائب، وفي العام نفسه قام جهيمان العتيبي بحركته باحتلال المسجد الحرام متسلحاً بادعاء آخر هو أن المهدي المنتظر بمعيته، ودعا الحاضرين إلى مبايعته عند الكعبة، وبشرهم بأن الجيش الذي سيهاجمهم ستخسف به الأرض. ويصعب القول بارتباط تحرك جهيمان السلفي السني بثورة الخميني الشيعية في أي شكل من الأشكال، على أن جهيمان تلقى دعماً لوجيستياً واضحاً مكنه من جمع الأنصار والأسلحة وتهريبها وتخزينها.

إلا أن ثورة الخميني فتحت شهية تنظيم الإخوان المسلمين لتحقيق حلم منظر الجماعة سيد قطب باستعادة الخلافة الإسلامية السنية في مواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية، وبين الجانبين عناصر مشتركة كثيرة، لعل أهمها افتقادهما عنصر المشروع الحضاري الذي يستهدف إعمار الأرض وتنمية الإنسان، واتفاقهما على عنصر تصدير الثورة بكل الوسائل، بما فيها التحالف مع الأعداء التقليديين أو «الجهاد» المسلح أو حتى تجارة المخدرات، فالغاية تبرر الوسيلة، وظهرت جماعات حزب الله وأخواتها، في مقابل القاعدة و «داعش» أخيراً، ويتفقان على عنصر التكفير لكل المخالفين والمعارضين، بمن في ذلك مراجع الشيعة الكبار أو علماء ومؤسسات الفتوى السنية، والعنصر المشترك والأكثر أهمية هو المركزية والارتباط والبيعة للمرشد الأعلى في قم، أو المرشد العام في المقطم.

الملك عبدالعزيز رفض بـ«بصيرته الثاقبة» طلب حسن البنا تأسيس مكتب للجماعة في المملكة، لكن هذا لم يمنع الدولة لاحقاً من قبولهم لاجئين، حين اشتدت عليهم مطاردات الأنظمة في مصر وسورية، وبالفعل عاشوا كامنين بين ظهرانينا يبشرون بمنهجهم ويتحينون الفرصة للقفز على مفاصل الحكم، حتى رأينا أسماء رموزهم تتصدر الكتب المدرسية وقاعات الجامعات، هذا لم يكن يعني أنهم لم يكونوا مكشوفين أمام السلطات، إذ وصفهم الأمير نايف بن عبدالعزيز بأنهم «أصل البلاء».

وبالتقنيات الخمينية نفسها تم رفع شعار «الصحوة»، وهو شعار يبدو إيجابياً، ولكنه محرض على كل ما سبقه وما تلاه وما اعترض عليه، وبسرعة انتشر الشريط الإسلامي وبدأت عمليات التجنيد في المدارس والجامعات وحلقات تحفيظ القرآن الكريم ومخيمات الشباب، وبسرعة انتشرت محال التسجيلات الإسلامية على أنقاض التسجيلات الموسيقية التي وجدت من يمول شراءها وتحويلها إلى الاتجاه الصحوي، وشهدنا نجوم التسجيلات الإسلامية يتحولون بسرعة إلى نجوم في القنوات الفضائية، ثم في وسائل التواصل الاجتماعي، ينافسون نجوم السينما والموسيقى في عدد المتابعين، ويغشون المنتديات الاجتماعية والعلمية كالطواويس يحف بهم الأتباع.

الخطاب الصحوي/ الإخواني لم يكن يقدم مشروعاً حضارياً واضح المعالم، ففي شقه الجهادي كان الهدف المعلن هو هزيمة الغرب الكافر وأعوانه بقوة السلاح، ولم يتطوع أحد من قادتهم ومنظريهم بشرح التناقض الكامن في أن سلاحهم من راجمة الصواريخ حتى البندقية الآلية والسيارة، وصولاً إلى السكين التي يذبحون بها ضحاياهم وهي من صنع الغرب الكافر، ولا في كيفية وصول هذا السلاح والعتاد إلى أيديهم، وفي الشق المدني فإنه يركز على تكفير المخالفين وجمع الأنصار وتجنيد الشباب تحت رداء السلفية أحياناً والاعتدال أحياناً أخرى، ولأنهم يعملون في مجتمع محافظ ومتدين يحترم العلماء بطبيعته تحصلوا على مكاسب المكانة الاجتماعية الكبيرة والثروة أحياناً.

الواجهة الإعلامية لهؤلاء الحركيين تكونت من مجموعة من الخطباء المفوهين، لهم سمات محددة لا تخطئها العين، فهم من حملة الشهادات العليا غالباً، ولا يهم التخصص، لكنهم لم يقدموا أي إنتاج علمي يعتد به في أي مجال، وخصوصاً في الدين والفقه والشريعة، لا يشق لهم غبار إذا اعتلوا المنابر في استقطاب اهتمام السامعين، في قدرة يحسدهم عليها أعضاء أندية الخطابة العالمية Toast Masters، جميعهم تخلى عن مظاهر الزهد.

هم ليسوا علماء ولا فقهاء ولا مفسرين، وإنما هم أقرب إلى الوعاظ بمسمى دعاة يحرصون على حمل ألقاب «فضيلة» و «شيخ»، وحينما تعمل عقلك في التساؤل عن كيف يمكن أن يوجد الداعية في وسط مجتمع متدين أصلاً لا بد أن تصل إلى نتيجة أن وظيفتهم الحقيقية ليست الدعوة إلى الإسلام وإنما الدعاية لمشروع الحزب، ولأنهم يتبعون عقيدة حزبهم التي تلغي فكرة الدولة الوطنية، فإنهم يبشرون بقدوم الخلافة الإسلامية، ولا يهم إن كان الخليفة هو محمد مرسي أو رجب طيب أردوغان أو أبو بكر البغدادي.