أحمد التيهاني

«الختم مش واضح»، و«التاريخ خاطئ»، و«الورق الرسمي قديم»، و«عدد المرفقات غير مكتوب»، و«الخطاب غير مُركّن»، و«هات عقد النكاح بالإضافة إلى سجل العائلة». 


هذه ملحوظات اعتاد البيرقراطيون المتطرفون اللجوء إليها عند الرغبة في التعطيل، سواء أكان هذا اللجوء ناتجا عن الالتزام الآلي الحَرْفي، أم عن الرغبة الخفية في تأخير معاملات بعينها، تخص أشخاصا بأعينهم، مما جعل البيروقراطية مصطلحا ذا سمعة سيئة؛ لارتباطه ببطء الإجراءات، وتعقّد سيرورة المعاملات الإدارية، والتركيز على الشكليات.
أزعم أن الخلل ليس في البيروقراطية نفسها، بوصفها قوانين موحدة وملزمة، فهي لا تعدو أن تكون مجموعة من القواعد الرسمية التي تضمن توزيع المسؤوليات، وتحقق سلامة الإجراءات وعدالتها، وإنما الخلل في القائمين على الأعمال الإدارية، عندما يخضعون هذه القوانين لأهوائهم، أو يسقطون عليها عقدهم النفسية المتراكمة.


البيروقراطية في أصلها النقيّ ضرورة إدارية؛ إذ لا بد لكل منظومة إدارية من تنظيم ذي تسلسلٍ هرمي واضح، وذي مهمات محددة، وصلاحيات معلومة لكل موظف في المنظومة العامة أو الخاصة، فضلا عن أهمية وجود ضوابط وتعليمات مكتوبة، تشكل لوائحَ ملزِمة للموظف ولصاحب المعاملة، ويغلب عليها الثبات النسبي، أو تكون آليات تطبيقية متغيّرة، تبعا لتغير الوسائل وتوجهات الدولة، وتطورات التقنية.
وقد كتب المتخصصون في علم الإدارة بحوثا كثيرة عن «الروتين الممل»، والإجراءات المعقدة التي نتجت عن فهم خاطئ للبيروقراطية الإدارية، واقترحوا حلولا كثيرة للمشكلات الناجمة عنها، إلا أن الروتين بقي سائدا، حتى ساد وتحوّل إلى شكلٍ من أشكال السلطة التي يملكها القابعون خلف المكاتب دون غيرهم.


وحين بدأت المعاملات الورقية في التلاشي، وجد بعض أهل علم الإدارة مخرجا سريعا ويسيرا يعوض عن الحلول التي اقترحوها ولم تُجْدِ، أو تَجِد آذانا مصغية، فبشّروا باختفاء البيروقراطيين الآليين الحَرْفيين الشكليين التقليديين، وبانتهاء عصر الروتين، معتمدين في بشارتهم على أن التقنية لا تعرف التعقيد البيروقراطي؛ لأنها خالية من العُقد، ومن الرغبة البشرية في ممارسة السلطة والتسلط، فهي ليست ذات مواقف من الأشخاص، وليست حَرْفية أو شكلية، مما يعني السرعة والسلاسة، واختفاء أسباب الشخصنة، وانتفاء بعض عوامل الفساد الإداري الناجمة عن المواقف الشخصية.
هذه البشارة سبقت التطبيق الفعلي التام للتقنيات في مجال الإدارة، واعتمدت على استشرافات تفترض وجود برامج تقنية وأنظمة حاسوبية ذات كفاءة عالية، وتفترض وجود إداريين يعون أن الهدف من إيجاد هذه التقنيات هو التيسير، لا التعسير بإكثار الحقول، وزيادة أيقونات «هذا الحقل إجباري»، إلا أن المتعاملين مع الأنظمة الإدارية الإلكترونية، اكتشفوا وجود نوع جديد من البيروقراطية، هو البيروقراطية التقنية، أو بيروقراطية التقنية، وتتمثل في عدم مواءمة بعض هذه الأنظمة والبرامج للمعاملات التي صُممت لتيسيرها، وفي عدم كفاءة بعضها الآخر، وعدم واقعية بعض ثالث، وذلك كله يعيدنا إلى التأخير والتعطيل، ثم إلى شكل جديد برّاق من أشكال الروتين الإداري.


البيرواقراطية التقنية أشد ضررا، وأكثر تعطيلا من أمها البيروقراطية التقليدية؛ لأن التعامل هنا مع أجهزة لا ينفع معها الإقناع، ولا يفيد معها التذكير بالواجبات الوظيفية، أو التأكيد على أهمية العدالة، وعلى وجوب عدم إدخال المسائل الشخصية في المعاملات الإدارية، ولا تنفع معها حتى «الواسطات»، ولا كلمة «تكفى» التي «تهز الرجاجيل»، لكنها لا تهز الأجهزة.
هناك أمثلة كثيرة للبيروقراطية التقنية، وهي أمثلة يعرفها المتعاملون معها بشكل يومي، ويعانون منها معاناة شديدة؛ فبعض الأنظمة الحاسوبية الإدارية لا يعمل إلا في وجود برامج لا تتوافر على أجهزة الحاسب كلها، ولا أبالغ إذا قلت إن بعضها قد لا تتوافر إلا على أجهزة مصممي البرنامج أنفسهم، وبعضها ذو خطوات كثيرة لا تتطلبها المعاملة الإدارية، وبعضها يعمل على «متصفّح» شبكيّ واحد، دون «المتصفّحات» الأخرى، وبعضها يطلب معلومات وأرقاما هامشية بالنسبة إلى المعاملة، ولا يمكن توفيرها بأي طريقة، وبرغم ذلك فهي من فئة: «هذا الحقل مطلوب»، وبعضها يطلب رفع وثائق ذات حجم كبير جدا، وعند محاولة رفعها يعتذر النظام بأن «حجم الملف كبير ولا يمكن رفعه»، وبعضها يدون ملحوظات غير صحيحة ناجمة عن خلل في البرنامج، وليست ناجمة عن نقص حقيقي في تعبئة الحقول أو رفع الوثائق.
هنا، نحن أمام خللين: أحدهما إداري، والآخر تقني، ويتمثل الإداري في كون الذين طلبوا تصميم البرنامج بيروقراطيين آليين تقليديين حَرفيين شكليين في الأصل؛ ولذا يطلبون من المصممين إضافة «خانات»/‏حقول كثيرة غير مهمة، ولا تتطلبها المعاملة الإدارية، ولا تزيدها صدقا أو وثوقا، بقدر ما تزيدها تعقيدا وتعطيلا وتأخيرا، وبقدر ما تعيدنا إلى الروتين الممل.


أما الخلل التقني، فيتمثل في اعتساف تطبيق التقنيات الإدارية اعتسافا قبل اكتمال الإمكانات الفنية، ليُقال -إعلاميا- إن معاملات هذه الجهة باتت إلكترونية كلها، وليتم تدشين الخدمات الإلكترونية الجديدة أمام الكاميرات، ولتوزع إدارة العلاقات العامة والإعلام خبرا عن التدشين، وتُضاف إليه إنشائيات تلميعية تتعلق بطموحات لن تتحقق، وما اعتذار نظام إلكتروني ما بأن «حجم الملف كبير ولا يمكن رفعه»، إلا أنموذج للتدشينات الاعتسافية قبل اكتمال الإمكانات الفنية، وهو دال على أن سعة «السيرفر» أقل من السعة المطلوبة، لكنهم أجبروه على العمل، وحمّلوه ما لا طاقة له به، ليقولوا للناس: ها نحن نودع عصر المعاملات الورقية.
أقول دائما: إن سؤال التغيير والتطوير في بلادنا سؤال ثقافي في المقام الأول، وبعده تأتي أسباب التطوير تابعة وتالية، وفي موضوع هذا المقال، أعود فأكرر، إن المشكلة على الدوام كامنة في العقول، فالتحوّل إلى الحكومة الإلكترونية يتطلب أن نستبقه بتغيير جزئيات سلبية كثيرة من الثقافة المجتمعية والرسمية، مثل: ثقافة الاستعراض الإداري أمام الإعلام، وثقافة الفخر بالسلطات الإدارية، وثقافة تكثير المتطلبات الإدارية لإسباغ الأهمية على العمل، وثقافة التركيز على الشكليات لإرضاء المسؤول التنفيذي الذي يتوهمها منجزات حقيقية، وثقافة هدم الجيد القائم واستبداله بجديد أدنى منه جودة.