سمير عطا الله

 جاء دور الطقس. وقد يخطر لك أن ذلك مستحيل، أو غير معقول، لأن طقس لبنان مثل طبيعته، مديد الاعتدال، كثير التشاؤم، قليل العواصف، تحسدنا على إيقاعه أمم كثيرة. ولكن قد انقسمنا؛ البعض يرى أن قلة الأمطار هذا العام نقمة، والبعض يرى أن الصيف، مثل الرؤساء، يمدّد لنفسه، مرتاحاً في الربوع، فالشاً على البحر أشعة الشمس وأكوام القمامة.

وما يسميه الأميركيون «الصيف الهندي»، من هنود أميركا لا من هنود كالكوتا، نسميه نحن «بين تشرين وتشرين صيف ثانٍ»، أي تمدد الدفء إلى أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، ويسمي الفرنسيون هذه الفترة «صيف سان مارتان» أو «فضلات الصيف».
لكن نحن - كالعادة - نتفوق على الجميع بالمثل الشعبي «شباط (فبراير) لو شبط أو لبط رائحة الصيف فيه». وهذا العام كان شباط/ فبراير باقة صيفية يحبها المتمتعون، ويستنكرها أهل الزرع والمواسم. ومنذ أسابيع وأنا أستعد للسفر إلى باريس، لكني عندما أصغي إلى نشرة الأخبار أراها يوماً زالقة على الجليد، ويوماً غارقة في فيضان السين. وأتطلع من شرفتي فأرى بحر بيروت أزرق جميلاً تسبح فيه زبالة الناس. واحتار: جليد باريس أم وطن إيليا أبي ماضي: «وطن النجوم أنا هنا.. حدّق.. أتذكر من أنا»؟
يا سيدي، حدّقنا، وتأملنا جيداً، والله أعطى وطنك الجميل لمن يملأه نفايات، براً وبحراً، ساحلاً وجبلاً، وعند الحاجة يرددون النشيد الوطني، وخلاصته: «كلنا للوطن»، على سبيل رفع العتب وتبرئة الذمة.
لست أدري في أي صف أقف في هذا الانقسام المناخي ومتغيرات «الثقب الأسود». فمن حيث المشاعر السامية، قلبي مع المزارعين الذين يخشون شحّاً في المياه. ومن حيث الأنانيات، أنا ضد الجليد والفيضانات على جميع مستوياتها، وأفضل الشمس والبحر الأزرق، رغم أن هذا اللون الجميل أصبح لأكياس البلاستيك. ومعروف أن زرقة البحر انعكاس لزرقة السماء، أما الآن فأصبحت، مثل كل شيء آخر، «مشكولة»، أي مختلطة، أو «غامضة» بلغة السياسيين في لبنان.
وهم يحبون الغموض حبهم للوطن، أي من دون تحديد الوطن. وهذا الغموض يلف الآن روح البلد، أي الدستور. وقد ورثناه من فرنسا الانتدابية قبل نحو القرن، ولا نزال مختلفين حوله. كلما أردنا عراكاً، صرخنا: هاتوا الدستور يا شباب.
وأما في فرنسا نفسها، فقد أصدر «مجلس الدولة»، أعلى هيئات القانون، قراراً باعتبار كل قانون غامض في البلاد لاغياً، من أيام نابليون إلى اليوم! حاول هنري كيسنجر إقناع سذّج هذا العالم بمبدأ «الغموض البنّاء»، لكن الغموض ليس بنّاء. الغموض، مثل صاحب النظرية، خبيث وحمّال نيات سيئة وضامر أفخاخ. اللعب على الكلام ليس مثل اللعب على الأوطان.