طيب تيزيني

هل نحن العرب والمسلمون لا نحتمل التقدم، لأن الأمر «خاص بشعوب ومجموعات أخرى»؟ لقد استخدمنا في تحليلاتنا حول هذا الموضوع بعدين اثنين لقضية المنهج المطلوب في هذا السياق. يتمثل أولهما في الخصوصية التاريخية، فيما يفصح ثانيهما عن نفسه كبعد بنيوي، وحيث يكون الأمر على هذا النحو المفتوح والفاعل، فإن لحظة ثانية تالية تتمثل في «منهج البحث» المستخدم هنا. وإذا أخذنا هذا الأمر بعين الاعتبار، فإننا نكون قد وضعنا بين يدينا نمطين من المنهج البحثي: التاريخي والبنيوي.

وهنا تبرز مسألة «لم الشمل» التي قادتنا في مقالة سابقة إلى وضع اليد على «الحقل السياسي» المجتمعي كنقطة انطلاق منهجي. إنه إذن، نمط من البحث التاريخي البنيوي المتكئ على ركيزتي التاريخية والبنيوية من هذا الموقع المنهجي المركب تنطلق باتجاه البحث في العنوان المذكور، وعبر حماية المنظومة السياسية في المجتمع لقطاعاته، ولم شملها على اختلافها.

وهنا نشير إلى أن المنظومة السياسية، إنما هي تلك التي يمكن ضبطها مع نشوء المجتمع الحديث (الليبرالي)، بعد أن أطيح المجتمع الإقطاعي. أما فحوى ذلك، فيتمثل في أن الليبرالية هي فكر وفعل متحرك من موقع السلطة الحائزة عليها والخاضعة لمنظومة من الأفعال السياسية المباشرة. وهنا نتكلم عن «مؤسسة» لها ضوابطها وقوانينها، وهنا أيضاً تبرز المرجعية الحاسمة العامة متمثلة في «المرجعية الوطنية» بتجسيداتها المتعددة، السياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية. وعلى هذا الأساس، نضع يدنا على المرجعية الكبرى التي تتأسس على عوامل تدخل كلها في «المدنية الوطنية» في تجلياتها المفتوحة مثل، الحضارة، والسياسة، والديموقراطية، والنهضة، والدستور، والحزب.. إلخ.

لذلك أقول: نعم، نحن نحتمل التقدم التاريخي، الوطني والقومي، بما فيه التحول الديموقراطي، والتداول السلمي للسلطة، والانتخابات الحرة.. وذلك بدءاً بالبنية المجتمعية الصغيرة، ووصولاً إلى أعلى مستويات صناعة القرار، إضافة إلى الثقافة الوطنية والقومية الجامعة.

إن مفهوم «الاستثناء» في العمل والحياة العامة، ينبغي تجاوزه من خلال التأكيد على دولة القانون والمؤسسات. والأمر هنا يتعلّق بتعميم قانون «اللاعدل» و«اللاتكافؤ» المنتشر في كثير من بلدان العالم العربي، بحيث يوصل إلى أنماط من «الدول الفاسدة»، والتي تقود نحو تفكك الأوطان بعد ما اعتادت على تخريب ما أنجزه الآخرون الشرفاء، أي المحافظين على مقتضيات المواطنة الحرة والعادلة.

وقد يوضح ذلك ما راح ينتشر في معظم العالم العربي من فساد وإفساد واستهتار بالقانون. وقد لاحظنا سابقاً ما أخذ يرسخ في البناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي والسياسي، تحت عنوان «السلطة الأمنية»، وقد رصدنا هذه الظاهرة ووجدناها «أخطبوطاً يفكك البلاد ويضطهد العباد» عبر قانون اصطلحنا عليه في سوريا باسم «قانون الفساد والإفساد»، أو «قانون السلطة الأمنية». وربما غدا القانون الأكثر خطراً، لاسيما حين نعلم بوجود «مؤسسات» لحزب قائد وشخصيات كبرى فيه عملت وتعمل على تعميم الفساد والإفساد، بعد إقصاء القوى المجتمعية الحية من ساحة الفعل، وتلقفت الفاسدين.

ولنقلها بوضوح: «المال الدّاشر» يعوّد الحرامية على السرقة. لذلك نجد بلداناً عربية لم يبق فيه شبر إلا ويعيش حالات مفتوحة من الفساد والإفساد، لأن هذا الأخير تحول إلى قانون سياسي وأخلاقي شبه شامل.

انظروا ما تفعله الحروب المدمرة بهذا العالم العربي! إن هذا الأخير لن يترك في حال سبيله، إلا بعد دخوله حالةً من الموت السريري، وربما هو الآن قد دخلها منذ سنوات، وهي حالة تمس الجميع.