سمير عطا الله

بعد سفر طويل عدت إلى قراءة الصحف اللبنانية، ورقاً. وهي الصيغة الأحب عندي. فالصحيفة الورقية كلٌ، وليست فصولاً مثل الضوئية. وهي تقدم نفسها لك لحظة شرائها، صفحة صفحة، من المانشيت إلى الإعلانات المبوبة. وكانت الصحيفة الورقية صورة مباشرة عن حالة البلد: الإعلانات الكبرى توحي بما تقبل الناس عليه، والفصول تبدأ في الجريدة قبل أن تبدأ في الطبيعة، ومعدل الازدهار بيِّنٌ دون إحصاء.


المؤسف أن الصحف الورقية الآن خالية من الإعلانات، حتى قليلها. وهي بلا شك في أزمة، أو مأزق. مثلها مثل البلد نفسه. وأذكر تماماً كيف في العام 1968 قامت الدنيا في الجمعية الوطنية الفرنسية على حكومة جورج بومبيدو لأنه قرر السماح ببث الإعلانات على التلفزيون الرسمي. وظل يخطب طوال ساعة وأربعين دقيقة مع مقاطعات النواب، ليقنع البرلمان أن 6 دقائق إعلانات في اليوم ليست شيئاً خطراً. لكن المعارضين أصروا على أن الدولة سوف تسرق الإعلان من أمام الصحف المحلية الصغيرة المحدودة الدخل.
أخذ التلفزيون التجاري في لبنان المورد الإعلاني من أمام الصحف، ثم فقد بدوره الجزء الأكبر من موارده. وكانت أولى وكبرى ضحايا الأزمة صحيفة «السفير». والأزمة مستمرة ومتفاقمة. وقد خفضت «النهار» صفحاتها لكي تركز على الطبعة الإلكترونية. وتوزع الآن آلافاً محدودة بعدما كانت توزع في بيروت وحدها 30 ألف نسخة في اليوم. وهناك مداخيل «جانبية» تذوب أيضاً. فـ«الحياة» صرفت موظفيها في بيروت. و«العربي الجديد» نقلت طبعة بيروت إلى إسطنبول، لأسباب واضحة.
ويبدو الأفق مسدوداً مثل أفق الاقتصاد اللبناني نفسه. ولذا لا تشكو صحف الخليج من علامات الأزمة بسبب الحيوية في حركة الاقتصاد، التي تدنت عن قبل، لكنها لم تبلغ مستويات الأزمة. والمعلن في معظم الخليج محلّي، بمعنى أنه شريك الناشر والقارئ معاً، وقد يتجاوز متطلبات السوق وعلامات التجارة، إلى الدعم العفوي.
لم يبق للصحف الورقية من معلن رئيسي في لبنان سوى البنوك. ولا تزال هي أيضاً العنصر الرئيسي في الاقتصاد الوطني المأزوم. وأبواب الفرج المعتادة مقفلة. فالسعوديون والكويتيون والخليجيون الذين كانوا يعوضون الوهن في الاقتصاد، «نفَّرتهم» سياسات لبنان. والدبلوماسية اللبنانية غير قادرة على تفكيك أوثقتها في هذه الناحية، برغم أن زيارة الرئيس ميشال عون إلى الكويت، ذكَّرت بما كانت عليه علاقات لبنان مع الخليج منذ ما يزيد على ستين عاماً.
كان وجود الخليجيين في لبنان عاملاً أساسياً في رواج الصحف وفي تأثرها الإعلاني بهذا الوجود. فهي في الأساس كانت صحفاً «عربية» في آفاقها. وكذلك كان لبنان. وما أقسى المصيرين. سوف تعرف مداها عندما تجد الصحف خالية إلا من إطار إعلاني. أو اثنين.