عادل درويش

 حدثان عالميان أعتبرهما تاريخيين في العلاقات الدولية، لكن الصحافة، خصوصاً الإذاعية والمرئية الليبرالية اليسارية، تعاملت معهما بسلبية تناقض المنطق وحقائق الواقع.

الأول زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع السعودي إلى بريطانيا، التي فاق نجاحها ما كان متوقعاً من الجانبين السعودي والبريطاني، بتأثير إيجابي إقليمي وعالمي.
الثاني مفاجأة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه يرتب للقاء زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ - أون، عقب دبلوماسية سرية لكوريا الجنوبية، بعد تبادل الزعيمين الاتهامات والتهديد بالحرب.
رد فعل الصحافة كان مثل حكاية من آسيا:
رواد مقهى أهانوا مزارعاً في طريقه لفلاحة أرضه، متهمين إياه بالقسوة على الحيوان، لأنه وابنه يركبان حماراً. في اليوم الثاني اتهموه بالقسوة على الأطفال لأنه يركب وابنه يمشي. في اليوم الثالث اتهموه بسوء تربية الولد الذي ركب الحمار وترك الأب سائراً. في اليوم الرابع اتهموه بالجنون لأنه والولد يسيران بلا استخدام الحمار.
الصحافة الليبرالية اليسارية مثل رواد المقهى الخاملين بلا عمل ينتقدون رجلاً في طريقه للعمل الشاق في حقله؛ في انتقادهما للرئيس الأميركي وللمملكة العربية السعودية.
إعلان قرب اللقاء الكوري الشمالي - الأميركي جاء أسابيع قليلة بعد أن حبس العالم أنفاسه خشية أن يضغط أحد الزعيمين زر الصواريخ النووية الموجهة لمدن البلدين، حظي بـ10 في المائة من تغطية الصحافة الليبرالية اليسارية (خصوصاً التلفزيونية)، وندرت الإشارة إلى الحرب الكورية الدامية في مطلع الخمسينات. الـ90 في المائة الباقية قسمت بين إعادة بث لقطات تهديدات الرئيس ترمب للزعيم الكوري والعكس، وتغريداته المنتقاة سلبياً، وبين «خبراء» يتنبأون بفشل المحادثات (بسبب سياسة ترمب وتهوره حسب وصفهم)، أو أن كوريا الشمالية ستكون إيران الثانية، وترفع عنها العقوبات دون أن تقدم تنازلات.
في تغطيتها لزيارة ولي العهد السعودي باهرة النجاح (بوصف الساسة البريطانيين) ركزت «بي بي سي» وبقية الصحافة اليسارية على «مظاهرات المعترضين»، الذين لم يتجاوز عددهم بضع مئات بلافتات عن حقوق المرأة، والحرب في اليمن (بضع عشرات من اليسار المثالي اليوطوبي محترفي الاعتراض، والبعض متشددون إسلاميون كثيرهم من خارج لندن، وتحملت النفقات دويلة صغيرة والإخوان المسلمون ومؤسسات إيرانية). إعلان صفقة الطائرات المقاتلة والاتفاقات التجارية علقت عليه الـ«بي بي سي» (نشرة السادسة مساء الجمعة) كـ«لكمة في وجه مئات المعترضين على صفقات السلاح البريطانية السعودية»!!!
علامات التعجب، لأن المتظاهرين «المعترضين» لا يمثلون الرأي العام، ولا يملأون ميداناً واحداً مقارنة بمظاهرات يقاس حجمها عادة بمئات الآلاف، التي وصفها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأنها «أمر نتفهمه كعادة بريطانية مقبولة» في مقابلته الممتازة مع «بي بي سي» (الإذاعة الرابعة) الاثنين الماضي. جاءت أعداد المعترضين أقل من عُشر الأعداد التي توقعها الجبير والـ«بي بي سي».
نائبة البرلمان الأوروبي عن جنوب إنجلترا، جانيس أتكينسون، رأت في تغطية الإذاعة قبيل الزيارة حملة فشلت في تحفيز الشباب للاحتجاج.
نائب رئيس مجلس العموم السابق، نايجل إيفانز، وحالياً نائب رئيس لجنة التنمية الدولية البرلمانية، أعلن اغتباطه بالنجاح الفائق للزيارة وعلاقات «توفر آلاف فرص العمل» في دائرته (ريبل فالي في مقاطعة لانكشير)، وضم صوته للنواب مشيرين لـ5 آلاف فرصة عمل مباشرة في بريطانيا (تدعم صناعات توظف 22 ألف بريطاني) عدد مماثل في المملكة، وعشرة آلاف فرصة عمل سعودية في الخدمات غير المباشرة (مقارنة بثلاثمائة متظاهر!).
رئيسة الوزراء تيريزا ماي قالت في مجلس العموم (رداً على زعيم المعارضة العمالية) الأربعاء، إن المملكة العربية السعودية صديق قديم وحليف مهم لبريطانيا، وإن الحرب في اليمن لم تكن خياراً سعودياً لكنها واقع، لأن التحالف الدولي الذي تقوده المملكة ينفذ قرار مجلس الأمن بدعم الشرعية في اليمن ضد حوثيين (تدعمهم إيران) يهددون أمن السعودية والمنطقة، وأن التعاون في مكافحة الإرهاب بين المملكتين والجهود والمعلومات التي تقدمها السعودية تحمي أرواح البريطانيين.
لجنة شؤون الأمن القومي البرلمانية ذكرت في تقاريرها أن جهود السعودية أفسدت أكثر من 40 خطة إرهابية أخطرها كان يهدد أولمبياد لندن 2012.
وأضافت رئيسة الوزراء أن الحكومة والقصر وغالبية البريطانيين يرحبون أشد الترحيب بالأمير محمد بن سلمان.

مصادر داوننغ ستريت في لقاءات المجموعة الصحافية البرلمانية أشادت بصداقة جديدة تنمو بين الضيف السعودي والسيدة ماي كرمز علاقات حميمة بين الأمتين، وأن الكيمياء بين الزعيمين كانت جيدة وإيجابية (تعبير إنجليزي عن تطابق وجهات النظر)، وارتفعت بالعلاقات السعودية - البريطانية في كل المجالات إلى مستوى غير مسبوق.
مجموعة نواب مجلس العموم التي قابلت الأمير محمد في لندن عادت لوستمنستر بانطباع إيجابي، لخصه واجهة المجموعة دانيال كاويتشزنيسكي، (نائب دائرة شيروزبري وأطول النواب قامة) بوصفه ولي العهد السعودي بأهم مصلح اجتماعي وسياسي تشهده المملكة والمنطقة العربية في هذا القرن.
مفاجأة النجاح الأكبر للرأي العام كان مقابلة الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان مع القناة الرابعة (يسارية متطرفة) والمذيع جون سنو (يشن على المملكة حملة شعواء في مدونته ومقالاته الصحافية)، أسكتته فيها ببراعتها في الحوار، ولباقتها وحديثها عن التطوير ومسيرة المرأة نحو مزيد من التحرر الذي يتجاوز مجرد قيادة السيارة.
لم تكن إنجليزيتها سليمة راقية فحسب، بل تحدثت بلغة كبار المثقفين بأمثلة راقية المستوى من الثقافة الإنجليزية. تجنبت اتخاذ موقف الدفاع والهجوم المضاد (كما يفعل بعض ساسة ودبلوماسيي البلدان العربية) مقابل الاتهامات والسلبيات، بل ظلت مبتسمة ووظفت الأرقام والحقائق، والاعتراف بأن هناك مشواراً طويلاً للمزيد من التحرر والإصلاح وتجنب الأخطاء. فخطة الأمير محمد بن سلمان للإصلاح الاجتماعي وتطوير الاقتصاد بتنويع المصادر وجذب الاستثمارات العالمية، تمتد إلى 2030.
الجبير في مقابلته مع الـ«بي بي سي» تجنب، مثل الأميرة ريما، انتقاد الهيئة (رغم عدم حيادية التقرير الذي سبق المقابلة)، واعترف بأن هناك تقصيراً في إيصال رسالة المملكة وتطوراتها الاجتماعية غير المسبوقة إلى العالم الخارجي.
وعلى العكس من استفزازات ترمب للصحافة، فإن لقاء الأمير محمد بنواب البرلمان، ومقابلتي الأميرة ريما والجبير، حققت من النجاح غير المسبوق في ثلاثة أيام ما عجزت عنه مؤسسات العلاقات العامة (وتتقاضى الملايين) في ثلاثين عاماً.